نحن رعيلُ عمر بن جلون، لنا ذاكرة الفِيَلة!

أحمد المديني

1
لكي أخاطب قومي بجِدّ، ينبغي أن أتملك موضوعي، أكون عارفاً به، ومهيمناً على شكله ومضمونه، ظاهرهِ وباطنِه، وخفاياه، متوقِّعاً أيضا نجاحي في عرضه واحتمال إخفاقي. هذا ما يسميه العسكريون والخبراء حين يهيّؤون لخوض حرب (الاستراتيجية)، أي الخطةُ الشاملةُ تحيط بكل شيء، وترسم جميع السيناريوهات، تعتبرها قابلةً للتحقق بما فيها الهزائمُ والسقوط. لكن، ماذا إذ لا تحدث إلا الهزيمة، والجيلُ يتبع جيلا وهو يحصِد الخيبات، ويتجرّع الويلات، والحال مدلَهِمٌّ ولا أفقٌ يبِين، أو غدٌ آت. لم يسبق لشبابنا أن عاش الكآبة وشاخ قبل الأوان، كما الحال الآن.
2
من أين تأتي بموضوع جدي، متماسك، في وضع مفكّك، ومع ناس ، نعم يعيشون تحت سقف ولو من صفيح، بينا عقولُهم في شتات. الأثرياءُ مهووسون بأموالهم ويلهثون للمزيد، والوطن عندهم مزرعةٌ ومحلبةٌ ووقودٌ لمحركات الرحيل. هؤلاء أنجبوا أبناء مستعارين ويُعارون لآباء آخرين تركوهم وراءهم واليوم يتباكون عليهم ويذرفون دمع الحنين، يا للقردة والمهرّجين، يُحسنون طقوس الانتساب والولاء لأسيادهم يعطون الدليل بأنهم ما زالوا يلثغون، كما في الأعراس تتقدمهن (نكّافات)، إنما عيبٌ عندهن الصلاة على سيدنا محمد، فالعربية لغة البدو وللفُرجة والطنين!
3
وأدنَى منهم، متواضعو الدخل، والفقراء، والعاطلون، واليائسون يذرَعون طُرقات الآمال والأحلام طولا وعرضا وهم يكدَحون ويكابدون، يسألون متى يبتسم لهم حظ ٌّ فيكون لهم نصيبٌ في بلد سماؤه فوقهم وترابُه تعفّرت بها جباهُهُم، وفيها زرعوا حُبَّهم وسقَوْها بعَرَقهم بنوا بيوتَه وشادوا عمرانَه بسواعدهم، تنتهي دورةُ العمر وما زالوا يلهثون لكفاية الرغيف، من شدة الشقاء لا أجنحةَ تنبتُ ليجرّبوا حركة الرفيف، ورغم أنّا نمشي خِفافاً نطير في الحلم كالملائكة نحمَد ربّ العالمين، الجنةُ تبدو حلما بعيدا كأنما بدورها صادرَها الأغنياء، وحدهم يستطيعون للحج سبيلا!
4
أقول لجليسي الذي أفترض مثل قارئي؛ أقول له لا تعتَب. أنا لست متشائماً أو زرعي زُؤان، فالتشاؤم والتفاؤل رفاهية . كلاهما يحتاج إلى تفرّغ وتأمّل، وهما مِلكُ قوم شُغلُهم الشاغل إعدادُ جداول الأرقام والتوقّعات ومعدلاتِ النمو ودرجةِ إخصاب النمل والذّباب ويروْنا نتكاثر بلا معنى لا يعنيهم المعنى لأنهم مكلفون ومسيَّرون، ويا سيدي لا يفكرون، فالذي يفكر حرّ، والحرّ يغامر ويقبِض على الجمر وحياتُه غميسُها جُلُّه مُرّ. أقول لجليسي، أنا كما تعلم غاوٍ فنان، لذا ذَرْ كلامي فمن طبعي الهذيان، مُذ ولدتُ وأنا صريعُ الهوى، وهوى حبيبتي جنّني، آه، فتّان !
5
لا تحلو لي كلمة (أحبّك) إلا بالعربية. إذا سمعتها أو قلتها بلغة أجنبية أجدها سمجة، باسلة، لا طعم لها، ولكنهم هم، يا صديقي عبد الحميد، أعني تلك النخبةُ الرّثّة، المحسوبةُ علينا، المقيمةُ بيننا، تحمل البطاقة الوطنية مثلي ومثلك، هذه لا تحفل بنا، بتاريخنا وثقافتنا ولغاتنا وعشقنا، لن تسمعها تسلّم بصباح الخير، تردد شكرا وعفوا، وتستقبلك عند الباب بالتّرحاب أهلا وسهلا، تشمّ حين تأخذك بالحضن عطرَ السلام. لن. هذه النخبة يا سيدي حميد شبه جالية أجنبية تنظر إلينا من علٍ، أنت تتعلق بدين محمد وهي بأذيالِ من تعلم، وإذ يتخلى عنها فهي في مناحة، ولن أبكي لأجلها البتّة.
6
كان يحلو لصنف آخر، من نخبة عانقت الإيديولوجيا(الثورية) أن يقسِّموا العالم والبشر أصنافا، لن أستعمل تلك الكلمات الكبيرة، بارت، صيّرها متقاعدو الماركسية اللينينية خُردة لمّا باعوها في أرخص مزاد. أذكر كانوا يعيّروننا ونحن نحبو مخلصين في درب النضال ب(البورجوازية الصغيرة) ورطاناتٍ أخرى التقطوها عُمْياً ثم دارت الأيام فداسوها دَوْساً، حذار، إن لأبناء وعمومة عمر بن جلون ذاكرة الفِيَلة. ما علينا، ورغم أننا لم ننفُض يدنا ولا جلدَ ماضينا سلخنا عن لحمنا فما عاد عندكم وقدامنا ذلك الحاجز السيف الذي أشهرتموه: الصراع الطبقي؛ أوَتذكرون؟!
7
أقوى ما نملك نحن المغاربة، ذاكرة النسيان، فيا لها من مفارقة. نشبه من تعاقبوا على حكمنا، يمحون أسماء ومعالم بعضهم بالتتابع، فيقزِّمون حجم البلاد والأمة، بينما الدول والأمم ترسخ وتعلو بالانتظام والاستمرار. اسألوا تلاميذنا من هم أجدادُهم ما وقائعُ أيامهم وكيف انتقلنا عبَرنا من ذلك الزمن السحيق إلى ما نحن فيه اليوم، بقوته وضعفه، مجده وبؤسه، هيهات، لن تسمعوا إن وجدتم سوى نُتف، خيرٌ لكم، لا تسألوهم إن يُبْدَ لكم يسُؤكم؛ وقرأت أخيرا مقالا عن الرواية المغربية فطالني العجب كيف واضعُهُ مسَحَ الروّادَ والكتابَ الأفذاذَ مسحاً، عَدّ نفسه صال جال وأباد!
8
هي حروبُ إبادة متواصلة للذاكرة، للقيم، لتاريخ النضال، لأعلام الوطنية والحركة الديموقراطية ومنارات العرفة والتنوير ومؤسِّسي الثقافة الوطنية وتجذّرِ الوعي القومي وما بُوسع الشعوب أن تفخر به، إمّا يُسفّه أو يتراكم فوقه الغبار، وإما يُسند أمرُ تدبيره إلى غير أهله، وإذن فانتظر الساعة، ولقد قامت ولم ننتبه إليها، سهونا عنها، بتنا نسبح في البِرَك الآسنة، منها النتنة، ونحن غرقى، نرانا نجدِّف في الفراغ وبيننا من يلغط يا للفوز المظفر همُّه الهتاف في الموكب العظيم للرِّعاف، بالفصحى النزيف، قد طال وضاع الرِّهان، النساءُ والرجال يلهثون وراء الجاه، آخر عنوان.
9
لست من مدرسة الأخلاق الحميدة، أي داعيةً بالنهار وسافلاً وراء حجاب، لكن كثيرٌ أن يتكالب علينا حتى السّفهاء. الشّنّاقة وتداولونا في الأسواق. اللصوص الكبارُ والصغار صعدوا ونزلوا بنا في البورصات. مربّون ومسيّرون مسلَّطون يخططون ليومنا وغد أبنائنا بالحق تارة وتارات بالباطل والبهتان، والألسنة بُترت، والأفواهُ خيطت، والعزائم وَهنت، وقيل لا بأس منه كلُّه، قد تكسّرت السّنان على الهوان، والله يلعنك يا شيطان؛ إنما أن يصدح ويتبرّج السّفلةُ والسّفهاء في واضحة النهار على مرآى ومسمع ويعلو شأنُ سقط المتاع ، ولكي تنشد شعرا إمّا تنتحر أو تُباع، لا! لا!
10
مِسك الختام يا عبد الحميد، واعذرني على فيض حزني في هذا المُرام، أنك وأنت في عناء من نقصٍ في السماء، فأنا فأراني أعاني وأعاند عبثا كيف أُحيي الموات. ليتني لم أصبح الكاتب الروائي الذي أزعم ومنذ خمسين حولا أخوض في غماره، ولا أكبح النفس لا أرتوي من عطش لا أشبع من وليمة الحق في الحقيقة والخيال. أنت الشاعر الشفيف والصحفي المنقّب الحصيفُ تعلم جيدا أننا، معا، لا نملك غير شتلة كلمات ونركب بساط الريح من الاستعارات، ونقول أيضا للمجرم أنت قتلت، ونهبت، وعليك أن تدفع الثمن وننتزع الحق. رأس مالنا ما هو للبيع ولا الشراء، أو كلّه هباء!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 19/10/2022