هل الأرض المحتلة في المزاد؟

محمد بودويك

للظلم تاريخ وشراسة وحشية لا تنتهي، ظلم شعب يدافع عن حقه في الحياة، والعيش على أرضه الكنعانية، أرضه التاريخية، أرض أجداده، متشبثا بحبل وجوده رغم استهدافه بالقتل والمحو منذ 1936، مرورا ب 1947، و1967، وما بينهما، علاوة على التقتيل الممنهج في عُمّان وبيروت ودمشق، واضطهاد ومطاردة من دون القفز ـ بطبيعة الحال والمآل ـ على تشرذم القضية الفلسطينية، وتفتت الوحدة الفلسطينية على أسياف ونعرات البغض والصراع والعناد المرَضي بين أبناء الدار أنفسهم.. بين مطرقة الإيديولوجيات، وسندان المزايدات السياسوية بين الفرق والفصائل؛ كل فريق يتوهم أن موقفه هو الصواب والأنفذ من أجل بناء الوطن واسترجاع الحق الفلسطيني الضائع، فضاع الجهد الذي ينبغي أن يعرف توحدا وتوافقا وانسجاما في الرؤية والفكرة والتكتيك والاستراتيجية.
ربما كان التشرذم إياه والتفاوت في قراءة مجريات الوقائع والأحداث بفِراسَة واستقصاء، وقراءة المحيط العربي أَلْمَعي (من معنا )، والمضاد ( من ضدنا )، واستقراء مواقف الغرب وأمريكا، الأعداء والأصدقاء؛ كان وراء التسرع والاندفاع في محاولة من حماس، وَضْعَ فلسطين في الصورة، وشعبها المحاصر في مقدمة الاهتمام العالمي، بعد أن كانت الإشاحة العالمية عنها والعربية أيضا قد استوت على سوقها، فباتت مهددة لها بالمحو، ولهم بالنسيان، أو في أحسن الأحوال أن يصبح الخبر السياسي المُغرض، إِنْباءً عن الأثر الباقي، عن الوشم في ظاهر الكتب والروايات وحسبُ.
قد نختلف في قراءة ما وقع في السابع من أكتوبر 2023 في ما سمي ب « طوفان الأقصى «، تأييدا ومناصرة للحدث الصاعقة الذي زعزع أركان إسرائيل وحلفاءَها ورُعاتَها، أو تريثاً وحكمةً، يا للحكمة المدعاة.. ، ونحن نحلل الآن ذيولها وتداعياتها على غزة والمقاومة المتحالفة معها في لبنان واليمن والعراق وإيران. لكننا سنصاب بالحيرة ولوثة الصفاء الذهني ونحن نقارب ذلك. ففي « الطوفان « درسٌ وجودي وأي درس، وفي وَسْمه بالمصيبة والغاشية التي حلَّتْ على عَقِبِه بالبشر: أطفالا ونساء ورجالا، وبالحجر: بيوتا وصوامع ومدارس وجامعات ومزروعات وزيتوناً وأَبَّاً ومتاعاً، درسٌ آخر ولكن بمعنى لا يستقيم. وها هي ذي فلسطين في المزاد السري والعلني موضوع بيع وشراء. فالإمبراطور الأعظم لا يعرف الاستعارة ولا المجازَ ولا التوريةَ حيث قالها بالواضح الفاضح: غزة لأمريكا ولإسرائيل، وشذاذ الآفاق. والآخرون .. كل الآخرين من العرب المحيطين بفلسطين، والبعيدين عن فلسطين، والأوروبيين يتبادلون الرأي والمشورة ليلا وخلف الستائر، وفي الصالونات والمؤتمرات الموصدة. يتبادلونه سراً: مدينين وشاجبين العدوان الصهيوني، والترحيل « المرتقب « الذي تنسج خيطانه آناء الليل وأطراف النهار تارةً. وبالصوت العالي المغلف الذي يُخْفي أكثر مما يُبْدي، وسادرين في الصمت الغريب المثير الذي يبارك كلام الطاغوت من دون أن يُعْلن عن ذلك، تارةً أخرى.

 

فلسطين في المزاد، فإما أن نُبينَ عَمّا يجمعنا بها تاريخا ودينا وعروبة وإسلاماً ولغة وثقافة وعقلا ووجداناً من أجل إسقاط المؤامرة السافرة بمالنا وفكرنا وحضورنا في المحافل الدولية، وإما أن « نتخلى « عَمّا يجمعنا بها دُفْعَةً واحدة، فنخضعَ للطاعون، ونستكينَ جُثَّماً صاغرين فرائسَ للعُقاب الدموي الناهش إلى أن يأتي الدور علينا، وهو آتٍ، بل إنه شرع يخطو قُدُماً وعيناه الحمراوان اللتان تطفران قيحا ودما وناراً، على سيادتنا وأحلامنا وعروبتنا وإسلامنا.
إن الترحيل الذي يثور ويدور منذ مدة في الديبلوماسية والإعلام والميديا، هو مشروع صهيوني قائم منذ احتلال واستيطان فلسطين واقتلاع شعبها، والسعي إلى إبادته. وما تدمير البنى التحتية تدميرا هائلا ممنهجا أكثر من خمسة عشر شهراً قَنْبَلَةً وقصفاً وتجريفاً ونسفاً، ما هو إلا الجزء الظاهر والخفي لإجبار الشعب على الخروج الرابع من كل فلسطين بعد ضم الضفة الغربية وتهويدها بالكامل، والذي يجري القيام به في البلدات والمخيمات والمدن، على قدم وساق أمام أنظار الغرب «المتمدن»، و«أمريكا الحرة». ومن ثمّ، فاستعادة اللُّحْمَة الفلسطينية في هذه اللحظة التاريخية العصيبة، واجبٌ وطني وقومي وإنساني وتاريخي، ومسألة مستعجلة وملحة لأنها مصيرية ووجودية. الإجماع ـ الآن ـ وليس غداً لإنقاذ الذات والوطن والموضوع والتاريخ والمستقبل، والبَرِّ بالشهداء. أما النقاش السياسي الذي بلا مخرج، والعُتْب والملامة والتراشق بالاتهامات والتخوين، فينبغي أن يتبخر. وثقافة الغالب والمغلوب داخل الأسرة الواحدة، والكيان الواحد، وَجَبَ أن تُقْصى وتُنْسى.
إنّ الذي يكسر التوافقَ مرشح بقوة ليصبح كبش الفداء.

الكاتب : محمد بودويك - بتاريخ : 19/02/2025