وجه أمي وغزالتي الشاردة في رحيل عائشة الشّنا

أحمد المديني

 

1
لا زمنٌ يعود. لا شيءَ يُستعاد، إلا وهمُها. الذي عشتُه فات، وإن قلت إني سأستعيدُه، أكتبُه،فخُدعة وافتئات. ثمّة انفصال، مساحةٌ شاسعة بين ما عشناه، وتقلّبنا فيه، وحلمنا أن نصبح عليه؛ وبين الكتابة. هذه وسيط. خيط مُرهفٌ، برقٌ خُلّبٌ، لا طريق؛ هي الكلمات. مفرداتٌ مستقلة. قاموسٌ لأسماءَ ومُسمّياتٍ وصفات. وُجدت قبلي، وستبقى بَعدي. حين أتدخل لإضافة كلمة واحد، فقط، سينفضُّ الناس عنّي، وقد حدث هذا، وأُرمَى بالخبل. حين أقترح اسماً أو أنحت صِفة، وقد حدث هذا، أيضاً، منذ خمسين عاما، وأنا اليوم في السبعين، سيُوَقوق شعرور، ينعتني مثلُه ضابطُ صفّيقتات ببلاغة عكِرة، هذا مهبول، خذوه إلى برشيد، معنى هذا أنه هو المسطول، لأن برشيد هي أنا مسقط الرأس ومهوى الفؤاد؛ و»كيف الوصول إلى حِماك وليس في الأمر حيلة» صرت أشدو بحنجرة عبد الحليم حافظ أنشدُّ إلى تلك الديار،إلى أمي، وتراب التّيرس، وسمرائي أرض الشاوية جمعاء،عودةٌ مستحيلة.
2
أحيانا يعود، من غير أن نستدعيه، جرّاء الفقدان، نتلمّظ طعم الحنين على اللسان، ينخطف البصرُ توّاًفي الحلم يفتح كم من بابٍ وزقاقٍ وعنوان. نهيم في الليل البهيم للعمر وقد تاهت بنا الدروب، نعصر بقايا الأيام عاما إثر غمٍّ، والقلب يذوب، وأنتَ يا أحمد من قال إنك المرتجى، ما انفك خطوُك من بلد لبلد يجوب، وصورٌ لغُرفِ البيت القديم إلى عينيك تؤوب، ثم تُداري الفَقد بالنّسيان، بأنك مثل كلّ من عليها فان!
3
ليكون شيءٌ ما ينبغي أن ينتهي، لذا عبثاً أن نَنبِس بشفة طفولتنا إن لم نكن، بأن توجد هناك في ذلك البُعد السحيق، بين ثنايا ماضٍ أبداً لم يَنجُ منه غريق، فنحن الذين وُلدنا فيه لسنا سوى غرقى، وركبنا قاربَ نجاة، جدَّفنا أذرُعا بآمالٍ عظام، سبحنا في دِمانا وبقيظ الشمس دُبغنا، ودوالي كروم نبتت منّا بها سَكِرنا وما زلنا لا نستفيق، نحن جيل الشهداء والعصيان، لا أحد يشبهنا ونحن لا نشبه أحدا، لذلك نتنفس بالشهيق، فقط، إلى الأبد، الدليل أنّا نحيا ونموت وقوفاً لا نُداس كالديدان، بدأتْ تنتهي أو تمتد منا الطريق.
4
وإذن، أنا مِتّ، فهل يُعقل أن يكتب عن حيٍّ من مات، فالطفولة يا أولي الألباب إكسير حياة، والموت سُبات، هل أحدٌ يتكلم وهو يُبحر في نهر الفوات؟ هل سأنزع عنّي لحدي وأنفُضُ، مثل المويلحي، غبارَ الكفن؟ ولماذا؟ألكي أحثو ترابا وألتقط الفُتات، وهنا، في ضفاف أمس يضوع كافور الأزل، يطرد كلّ عفن؟أُوثر أن أتركها غافيةً، زاهيةً كانت أو شاحبة، تُرى عينا دافقةً في هجير فلاة، غزالةً شاردةً وذكرى مشتهاة، أوثر أن أنام في حضنها المَضى، لا يقال اليوم ولا غدا، رَضِيَّ النفس أغشى الرفات.
5
وحده موسى كليم الله، لو قلت سأكلمها، كأني أشرك بالله، يغفر الذنوب جميعا إلا أن يُشرك به، وبم أبرّر فعلة حمقاء لي وله؟!هي هناك في معراج السماء، وأنا تجاوزت البرزخ وتناسخَت مني الأسماء: طفولةٌ، يفاعةٌ، شبابٌ، كهولة، شيخوخة وديمومة الفناء،علَوت سَنامَها فلا عمر لي كي أسمّيها مذ تعدّيت الإسراء، من يُعيرني لغة السِّدرة والمنتهى كي أكتبها، أو هباء. من ذا كلّمتهُ الطفولة؟ طوبى لمن واتاه المنال!
6
لم أنس أمي مذ ووريت التراب، ما يربو الآن عن عشرين عاما. يحدث أن أسهو عنها كما أسهو عن نفسي في معمع الأيام، كما يحدث أني ما زلت أحين أطرق هي من تفتح الباب وتُعِدّ العشاء في منتصف الليل لابن ضال. حين تهيؤوا للتشييع سمعت من يسأل هل تُلقي عليها النظرة الأخيرة؟ طبعا، جفلت من السؤال. هم دفنوها في مقبرة الرحمة بضاحية الدار البيضاء وأنا وقفت أرى التراب على جسد كان غضّا أمس يهال، أغمضت عيني أقول: لا، هذا محال!

 

أتشبث بأهداب أمي كلما أحسست العمر يقترب من الزوال. أرى فيها مهدي وضحكتها وهي تناغي صباي وعدي، وإن نسيتها ساعة فلأتركها تستريح مني، آن لها أن تفرح قد شقيَت طويلا ببُعدي. فجأة أرى صورتها تملأ الفضاء من حولي رغم أني أقسمت لن تفارقني إلا إلى لحدي. كانت هي ووجه امرأة أخرى، أعي تقلُّبي بين أحضان عديد نساء، لكن الصورة التي انبثقت شهابا فجأة أضاءت أرضا وسماء، ووحدها تجتمع فيها خصال أجمل وأوفى الأسماء.
8
رأيت هذه المرأة دائما عن بُعد، وسمعت قرأت عنها كثيرا عن قرب، فوجدتها وحدها شعبا وأحزابا ومؤسسات وجمعيات، وأكبر من هذا قلبا بوسع الأرض. لم تكن تطلب شيئا لنفسها أو تلهث كي ترقى مجدا، كانت ، فقط، بردا وسلاما، على نسوة بلادها، شقيقات جنسها، ذوات الرحم اللواتي حملننا جميعا إناثا وذكورا، وفينا نحن الرجال من أنكر نطفته وشرّد أبناءه، وادّعى بخسة نبذ الحرام، ليشرق وجه السيدة عائشة الشنّا ينقذُهن ببهاء ظهور الهلال.
9
أمس ماتت مولاتي عائشة، ودُفنت في مقبرة الرحمة، هي التي قضت حياتها ترحم مظلومات يقسو عليهن المجتمع يسمّيهن (منحرفات، وعاهرات) ستَرتهُنّ، وأعالت أطفالهنَ، وحملت وجهها بنخوة تطرق كل الأبواب كي تعيد لهنّ قسط الإنسانية المغصوب، ونهشتها الألسن ومرافعات الفاسدين من أجل أخلاق ومُثُل ينتهكونها في الظلام، ينصّبون أنفسهم قضاة وجمارك على الحلال والحرام، بينما الشنّا تؤوي مشرّدة وتُرضع صبيا هما معا ابن الإنسان.
10
ماتت أمي، وماتت عائشة، وفي كل يوم بيننا من يئد البنات أحياء، من يستنكر ما للمرأة من حقوق، إن نطقت في محفل وطالبت فهذا عنده وقاحة وعقوق، وفي أحسن حال تساهل وتنازل. لا تكاد تجد أحيانا فرقا بين محافظ وحداثي مزعوم، بينهما الزوجات الأمهات البنات عُرضة للعنف والتنكيل، ومنه بعد إخفاء الوجه إنكارُ أسمائهن والإشارة بضمير الغائب. زوروا المحاكم لتروا الآلام ولا تحدثوني عن(المثقفين) وجمعيات حقوق الأوهام، أم الهوام؟!
11
في كثير مقاهي المدن المغربية يوجد سُفلي وفوقي تكتشفه إن أردت قضاء حاجتك. هو مساحة ضيقة ومعتمة. تعبر بها وتقع عيناك على نساء من مختلف الأعمار جالسات في زوايا، بينهن من يدرس، وبينهن أخريات هنّ الأغلب وحدهن وإما مترافقات، يتحدثن ويدخنن براحتهن، فهنا فقط باستطاعتهن أن ينفخن السجائر في الهواء، أما لو جلسن في الباحة الخارجية فهن عند هذا المجتمع ساقطات، وأكتفي بهذا من ويلات؛ رحمك الله يا عائشة الشنا!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 28/09/2022

التعليقات مغلقة.