يَصمُتُ فيجتمع إليه لُبُّه، ومن المغرب تُشرِق شمسُه

أحمد المديني

لا يوجد سببٌ محدّدٌ يدفع شخصاً ما للكتابة، أعني ما يمكن أن يُصاغ نصّاً بمقوّماتٍ وخصائصَ تنتظِم في نظام الأدب. هذا الشرطُ لا يظهر ويفهمُه الممارسُ إلا بعد أن يقضي وقتاً في التمارين، وعليه أن يُدرك أنه يتمرّن، فلا يحسَب أي ورقةٍ يزمِّمُها، ثم أوراقٍ يلُمُّها يُهرولبها عجِلاً إلى أول مطبعة كتاباً. ذلك أن الكتابَ شأنٌ خطيرٌ، يَحمِلُ معنى الولادة، وصورةَ الخروجِ من العدم إلى الوجود، ومعنى الرغبةِ في تمزيق شرنقةِ الوحدةِ لخَرقِ الصّمتِ المحيطِ والاندراجِ في صخبِ البشر، ومخاطبةِ الغير، حيث تصطخبُ الأنواتُ، وتهدِر الأصواتُ، ولن أتبجّح بالكلمة الكبيرة يِحذَر من استعمالها الكبارُ يَعلِكها الصغار أنهم يكتبون لرسالة؛ فهل تقدِرُ أن تزاحمها وتصطفَّ في جوارها، توجد بينها، ليكون لك صوتُك الخاص؛ الأصعبُ، كيف؟
..وجميع الأسباب واردةٌ قابلةٌ لأن تدفع للكتابة إذا أيقنتَ أن الصمتَ ضاق بك، ولم يَعُد يكفي لساناً، والعينَ بصراً، والخطوةَ حركةً، والجسدَ كياناً، والهواءَ تنفّساً، ومَن على الأرض أناماً. إذا تأكدت أن الصراخَ والبكاءَ والنّحيبَ والصلاةَ والعبادةَ والخشوعَ والتَّهجّدَ والهتافّ والغمزَ والّلمزَ والاحتجاجَ والشتيمةَ والحُبَّ بل العشقَ ذاتَه كلها لا تلبي حاجتك، تُسرِّب قلقك، تُصرِّفُ وساوسك، ولا تتّسعُ للهواجس الفوّارة بداخلك، والعوالمِ التي تَبني في مخيلتك، تريد، تطلب كلماتٍ وصوراً وألوانا وعباراتٍ وتراكيبَ وأصواتاً وأنغاماً لم ترها، تسمعها في الطبيعة، وفي لحظة ما تتوهم أنك مالكُها، الطبيعة أرضاً وسماءً سفينةٌ أنت ربانُها وإنك نوحُ تبني السفينةَ وتُبحِرُ بها تَحمِلُ من كلِّ زوجين اثنين، هي النَّصُّ الذي ستنقِذ به العالمين؛ ياه!
أرأيت أين يوصل الوهم، أرحبُ من أيِّ حلم، ويخرِق العادة تطير في الماء مثل (Avatar 2) في خيالِ صانع صورتِه ومخرجِه جيمس كامرون في شريطه الأخير جدا؛ فتحسَبك تملك كالأنبياء ضرورةَ القول وزمامَ القيادة، ومَن حولَك هم في ضلالٍ مبين، الشمسَ والقمرَ لك يسجدان، نصُّك مفردٌ هو الكلِم الأخير للبشر ما بعده حكمةٌ وبَيان، وما أنت في مذهبك مارقٌ ولا مُصيب، إنما تُجسِّدُ عذابَ الإنسان. الأنبياء يوحَى لهم، والعربُ اخترعوا لشعرائهم جِنّاً سَمّوهُ عَبقر، وشعراءُ الإغريق في حضارتهم القديمة خلقوا وحاوروا آلهةً وأساطيرَ في ملاحم، لقد وُلِد الأدبُ العظيمُ من علياءِ الخيال، لم يَقنع فيه الكائنُ بحدود الجسد، خِباءُ سكناه اخترق السماء، وهو مسكونٌ دوما بفكرة الخلق والبحث عن الخلاص، ومِمّن ؟ منه هو لا من أحد!
لذلك يُعْييني، يغيب عني، يستحيل أيّ جواب حين أُسأل في حوارات الصحافة العابرة، لماذا تكتب يا فلان؟ أعتبر السؤال تقريبا ضرباً من الاستفزاز، والجوابُ عنه استحالةٌ أو لغوُ السوق. كلامُ السوق كثير، أي ما يقال جِزافاً في الطريق، بلا إدراك وحسّ انتباه، وحضور عقل، وخُلوٍّ من التجربة وانعدام عِفَّةٍ وحتى خُلق. قد يأتي عفوَ الخاطر إنما قد يتفوّه به نَزِقون، مُزوَّقون بِريشٍ ملوّنٍ مستعارٍ من خارج، هم جوفٌ حتى الهاوية من داخل، عندهم جواب على كل سؤال، وقبل ذلك ألسنتهم محوٌللمنقوش الموشوم أخاديد لا تمّحي، للمكتوب قبلَهم، المسطّر بالمعرفة والوجدان، يتسارُّون بينهم كاللصوص في الظلام: اسمعوا أفضلُ طريقة لنشحذ قروننا أن ننطَحَ الصخر، أجدى طريقة لنبلغ صوتنا أن نعوي قبل الولادة قبل أن نخرج من الرّحم، نحن الرحم!
كتب صديقي الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد تدوينةً قال فيها بِحسْرة بيّنةٍ وعبّر بلهجته:» من زمان كل ما أشوف الأحوال مش حلوة حوالي آخذ استراحة وافتكر زينون الإيلي وبرهانه على عدم وجود الحركة. فإذا أطلقت سهما قبل أن يصل إلى نهاية المسافة لا بد أن يقطع نصف المسافة ولكي يقطع نصف المسافة لا بد أن يقطع نصف نصف المسافة وهكذا. ولأن كل مسافة نصفا لن يتحرك من مكانه بقالي كم يوم بحاول أريّح دماغي وأرجّع زينون بس اكتشفت أني مش لاقي زينون. رحت فين يا زينون يا حبيبي؟ فواسيته بالآتي: « أنت زينون ومثواهُ فيك، والمسافةُ منك وإليك، إنك القوسُ والفراشةُ ويا ما أطلقتَ سهاماً، روايةً تلو رواية عمّرت بها حياةً نحن سُكانُها. من تواضعِك تعَفُّ أن تقول أصبتَ الطّريدة، واليومَ تكاثرت الضباعُ والصراصيرُفي مِضمارٍ ليس لك، حاشا، أنت صيّادُ غزلان ووعول، فاسترِح في مساحة الفراغ هي كما عاشها وأيقنها بنظر ثاقب سيوران كثافة الامتلاء والحكمة الصامتة.
أوه، أطلب المحال. فما دامت السياسةُ والولايةُ والثقافةُ والكتابةُ وحتى السّفاهةُ والسّفالةُ أضحت مهرجاناً، أي لغَطاً ولغواً وطنيناً وطنياً عارماً من أنِفَهُ وعاداه وتنزّهَ عنه وعَصمَه الله منه بخُلق فكـأنما عادى البلاد. لن تكون توجد تتجدد وتتمدّد وتستمدّ إلا بمهرجان وتُسمَعُ تقول أنا أنا أنا تثقب الآذان وأعلى أبعدَ من كل أذان، ما همّ إن كنت صِفراً ثُقبا مفتوحاً ومستحَبٌّ أنت قِربةً منفوخةً بالرُّغاء؛ المهم، من يشاهدُك منيراً كالسّنا، تقفز من هنا لهنا، فوق المنصة تبَحُّ وتجْحَشُ في الميكروفون: ما أوتيَ أحدٌ رَهْطٌ علماً فناً شعراً فكراً رويةً، ما خطّ قرطاساً قبلنا أنّى له بعدنا في رمشة عين يأتيك النقيقُ رَجْعُ الصدى مع الهتافِ والتصفيق، رجاءً، لا تسألوني من أعني أو لمن أشيرُ فقد ضِعت أميّز بين مَن ومَن، أكاد لا يعنيني هذا من تلك، وأخشى رحيل المعنى.
لست في مَقام تقديم النُّصحِ ولا أنا زاهدٌ مثل ابن أبي الدنيا(ت 281ه) لأقرَع الرؤوسَ بما تفرّغ له عمراً يجمع الأحاديثَ والأسانيدَ ومُتخيَّرَ الأقوال جمَعَها في « كتاب الصمت وآداب اللسان» يقول مُقدّمهُ إنه كتبه في فترة كانت: «مشحونةً باللغط واللغو والانقساماتِ ولكل قائلٍ مقالة» لا صبرَ في زماننا على قراءته والتّمعُّن في فِكَره وعِبَره وأحاديثِه المُثلى الأليق بأهل المدينة الفاضلة، هي بالطبع نقيض المدينة الفاسدة، لا تصلُح للدراويش، هي لقارعي الطبلِ وسدنةِ المعبد، من المهدِ إلى اللّحد، وتكاثروا أباً عن جد، ولولا أن ثمةَ قلوباً بيضاء، وأكباداً تتحرّق حُبّاً بهذا البلد، ووالدٍ وما ولد، وترفعُ الرايةَ الحمرا تُصلّي على النبي فرِحةً تطرُدُ الكمَد، وعينُها من اليوم على أجملِ غد، لكنتُ يئست وختمت على فمي وشمّعت باب كلمي إلى الأبد.
الآن، ونحن في بداية عام جديد أتمناه لكم بأجمل المُنى، وأدعو بحرارةٍ إلى السلام والصدق والثبات والإقدام وشجاعة الشجعان لهزم الملمّات، نتأمّلها أولا بفراسة المؤمنين، ثم نَمضي لنواجهها سالكين بالإرادة دروبَ الإيمان واليقين، نصومُ عن الهرْج والضجيج، لا مكان بيننا للشعوذة وأبواق التّهريج، أما النّهابون الأفّاكون فلهم يومُ حسابٍ عسير، مهما بعُد أو خُيّل لهم فهو آتٍ لا ريب فيه. لينصت الصادقون المخلصون إلى قلوبهم وهي تنبض بالحق سيجدون كلماتي تَضوعُ مسكاً في قرارة نفوسهم، وها نحن في محراب الحق بالعيش الكريم وبكرامة لا أقلّ ولا أكثر نُصلّي بصمت آملين، فإن الرجلَ منا ليصمتُ فيجتمع إليه لبُّه، ويخلِص فتشرق من المغرب شمسه!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 11/01/2023

التعليقات مغلقة.