الغاية من تقارير مؤسسات الحكامة
فتح الله رمضاني
إلى حدود تسعينيات القرن الماضي، كان جميع الفاعلين والمتتبعين، يستندون إلى تقارير المنظمات الدولية، كمؤسسة البنك الدولي مثلا، من أجل رصد الاختلالات التي تشوب عملية أجرأة السياسات العمومية، لكن اليوم، لا أحد يمكنه إنكار الدور المهم الذي أصبحت تلعبه التقارير الوطنية، سواء السنوية أو الموضوعاتية، التي تصدرها مؤسسات الحكامة بالمغرب، والتي يتمثل دورها في عملية الرصد والمساهمة الفعالة في التنبيه إلى أعطاب الحكامة.
هذه المؤسسات، التي أحدثت من أجل تكريس مبادئ الحكامة، أي مبادئ التدبير الجيد والمعقلن، وبالإضافة إلى الأدوار والصلاحيات التي حددها لها دستور 2011، المتمثلة في التتبع والملاحظة ورصد الاختلالات، وهي الأدوار المهمة جدا في عملية البناء الديمقراطي، فقد أصبحت تقاريرها تلعب دورا آخر يتمثل في قدرتها على تنشيط الحياة السياسية المغربية.
فالمتتبع للحوارات السياسية التي يحتويها المجال العمومي بالمغرب، سيلاحظ أكيد، أن مواعيد إصدار هذه المؤسسات لتقاريرها، أصبحت تعتبر مواعيد سياسية بامتياز، بحيث أصبحت مضامينها موادا دسمة لهذه الحوارات السياسية، ولكل ما يرتبط بها، سواء مواقف المحللين السياسيين، أو مقالات الصحافيين المهتمين بالشأن السياسي، بل لقد أصبحت مضامين هذه التقارير، أرضية يستند إليها حتى بعض الفاعلين السياسيين، وخصوصا نواب الأمة من أجل تفعيل أدوارهم البرلمانية، ليس فقط بشكل يستند إلى ما تتضمنه من أرقام، بل بصورة تستند إلى ما تحتويه هذه التقارير من أحكام تقييمية، في حين أن الفاعل السياسي ملزم بصياغة موقف يلزمه، انطلاقا من هوية الإطار الذي ينتمي إليه ومن موقعه في المشهد السياسي.
في كل الدول الديمقراطية، فإن الغاية من إحداث مؤسسات دستورية وطنية ومستقلة، تعنى بمراقبة ورصد الاختلالات التي تشوب أداء المرافق العمومية، هي من جهة خلق آلية مستقلة للترصيد، تشتغل بالموازاة وباستقلالية تامة عن باقي السلط، من أجل العمل على تكريس مجموعة من المبادئ المرتبطة بالحكامة الجيدة، ومن جهة أخرى فهي صورة من صور تبني أساليب التدبير الحديثة لهذه المرافق، وهي الأساليب التي تتأسس على جعل عملية تتبع السياسات العمومية وتقييمها، عملية مستمرة، على عكس مراحل التقييم المتأخرة في أساليب التدبير الكلاسيكية.
إن أساس الديمقراطية، يكمن في ضمان فصل وتوازن السلط، بحيث تضطلع كل سلطة، أو كل مؤسسة ذات سلطة، بالقيام بمهامها انطلاقا من اختصاصاتها وصلاحياتها المحددة لها دستوريا، في إطار بناء ديمقراطي متفق على صورته وشكله، وهو البناء الذي من المفروض أن ينشأ وينشط بالممارسة السياسية، أي بالأحزاب السياسية وبالفاعلين السياسيين، فلا ديمقراطية من دون سياسة، ولأن الدولة لا تقبل الفراغ، ونظرا لواقع المشهد السياسي اليوم، والذي يسجل التباسا لافتا على مستوى الفرز الإيديولوجي للفاعلين السياسيين، والذي من المفروض أن يؤطر القراءة السياسية لمضامين تقارير مؤسسات الحكامة، خصوصا تلك التي تهتم برصد بعض الاختلالات المرتبطة بالفعل السياسي، بهدف بلورة مواقف سياسية تجاهها، أضحت هذه تقارير تشكل أرضية خصبة وخالصة يستند إليها جل الفاعلين والمتدخلين والمهتمين.
إن تقارير هذه المؤسسات، والتي أصبحت واقعيا محرّكا رئيسا للنقاش بالمجال العمومي، وهو النقاش الذي غالبا ما يأخذ صورة هجومية، تستهدف المرافق والقطاعات التي أشارت إليها تلك التقارير، وبشكل يجعل منها أساسا لشنّ حروب سياسية على فاعلين محدّدين، وبصورة لا تتأسس حتى على احترام أو استحضار الظرفية الزمنية التي اهتمت بتقييمها تلك التقارير، (هذه التقارير ) تفرض تعاطيا خاصا معها، لا من حيث قراءتها، لكونها ليست تقارير عادية، ولا من حيث مخرجاتها، أو كيفية تفعيل توصياتها، وذلك بهدف واحد، وهو الاستفادة منها، وهو النقاش الذي يحيل على فاعلين اثنين، وهما الفاعل المعني بهذه التقارير والفاعل الإعلامي.
فبالنسبة للفاعلين المعنيين بهذه التقارير، ونظرا لما ترصده من اختلالات، يجب التعامل معها بطريقة سليمة تتيح الاستفادة منها، من خلال العمل على تصحيح تلك الاختلالات، فهي هكذا تكون أداة للتنبيه وللتوجيه، وهنا نستحضر الكيفية التي تعاطت بها مجموعة من القطاعات والمؤسسات مع هذه التقارير، كالطريقة التي تعاملت بها وزارة إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية مع بعض التقارير الوطنية، التي قيّمت أداء الإدارة المغربية، ورفعت توصيات من أجل تأهيلها، حيث نظمت هذه الوزارة، مجموعة من الندوات التي أطرها خبراء المؤسسات التي أصدرت تلك التقارير بمعية أطر ومسؤولي الوزارة، في صورة بليغة للكيفية التي يجب أن يتم بها التعامل مع هذه التقارير، خصوصا أنها تقارير تقييمية للسياسات العمومية المتبعة.
وبالنسبة للفاعل الإعلامي، ففي مقابل المنابر التي تعرف المغزى من هذه التقارير، وكيفية التعامل معها، والتي تترجمها التحريات التي تقوم بها، والملفات التي تنشرها استنادا إلى المعطيات التي تضمنتها، بصورة تضعها في سياقها الدستوري، كتقارير لمؤسسات وهيئات للحكامة، هناك بعض المنابر الأخرى التي تتعاطى مع هذه التقارير، من منظور فرجوي، فضائحي، وتهويلي، يبرع فيه بعض المحسوبين على الجسم الصحافي، وبعض الذين يعلنون أنفسهم محللين سياسيين، ممن أصبحوا متخصّصين في علم «الجيولوبوليتيك» أو جيولوجيا الزلازل السياسية، والذين يجدون ضالتهم في هذه التقارير، للصول والجولان في رسم الخرائط الهندسية للحكومة، وللتفنن في دبج صكوك الاتهام والإدانة، مستندين إلى تقارير رصدية لفترة مضت، من أجل تقييم أداء مسؤولين في الفترة التي نشرت فيها هذه التقارير، ومؤسسين لمرافعاتهم على الجوانب التقييمية في التقارير، دون الالتفات إلى ما تتضمنه التقارير نفسها، من إشادة وتنويه بالجهود المبذولة، من طرف القائمين والمسؤولين في المرافق والقطاعات المعنية.
لقد أصبح من الضروري، ولكي تلعب هذه المؤسسات الأدوار الحقيقية التي أحدثت لأجلها، أن تتم عملية التفاعل معها، وفق منهجية جديدة، تتأسس على الموضوعية والمسؤولية، وعلى احترام مضامين تقاريرها، والعمل على تفعيل توصياتها، وبطبيعة الحال، في إطار الصلاحيات والسلط التي خولها دستور 2011 لهذه المؤسسات، وبعيدا عن كل صور الانتقائية والخلط والتعتيم.
الكاتب : فتح الله رمضاني - بتاريخ : 24/09/2018