أسماءُ شوارعنا غدًا: جباليا، الشُّجاعية، الشيخ رضوان، تلّ الهوى
أحمد المديني
في بدايات هجرتي الدراسية الأولى إلى فرنسا تبدّلت عليَّ أمور كثيرة، ما عدا مضجعي، فإني أمضيت سنوات أستيقظ وأقف كالمُسرنَم لا أعقل بالضبط أين أنا، في باريس،أم الدار البيضاء، ثم في ورطة اسمها الرّباط. وبما أن رفوف مكتبتي بين هذه الأمكنة متشابهةٌ أفتح عيني عليها في المكتب والصالون فلا أكاد أميّز، مما سبّب لي قلقا مزمِنًا خفت معه فقدانَ ذاكرتي. بالرغم من تكرار التنقل بين هنا وهناك، لم تستقر عندي صورة واحدةٌ للمشهد، كأن الزمنَ جمَد. ليلةٌ قريبة أعادت لي التهيؤ القديم. نعم، الأحلام والكوابيس حمّالةُ أوجه تطردُها في الصباح تطردُها الحقيقة العنيدة، لا تتبدد نهائيًا، تنزل إلى القاع حيث ترسُب ولا تُنسى، رغم ظنّنا النسيان.
في ليلتي تلك، عوض تنقلي في خريطة باريس ومرافق حيّي بالذات لغرض ما، للتسكع، ولا شيء، وجدتني أبحث عن أسماء شوارع وأحياءَ في مدينة أخرى لم أزرها وتطرُق سمعي في الأيام الأخيرة طرْقًا. عشنا، نعيش العالم كلّه في غزة، نُقصف مع أخبار قصفها، بتدمير عمرانها، وقتل سكانها، وحدها الحدث وسواه لغو وقبض ريح. لكل قصفٍ هدف. ضربت الطائرات الإسرائيلية (حيّ الرمال)؛ (شارع صلاح الدين)؛ (شارع عمر المختار)؛ (شارع جمال عبد الناصر). في خان يونس تقصف ما تشاء فشريعتها القتل. سأقول: (مخيم جباليا)؛ (الشيخ رضوان)؛(حيّ الشجاعية)؛( تلّ الهوى). هذه الأسماء العناوين من كثرة تداوُلِها في الأخبار بما سقط عليها من صواريخ، بتُّ أحفَظ. تكاد تمسح من رأسي ما تراكم منذ ولادتي، وها أنذا في خريف العمر، من عناوين وأسماء كما مسح العدوان العمرانَ أمسى أثرًا بعد عين.
هي لم تَبق، وما شاهدنا بعضَه في النقل التلفزي صورَ خراب وألواح حطام؛ كلّ أخوات كان. أتخيّل أني أجوب هذه الشوارع والأحياء والحياة تدِبّ فيها، أرى العمالَ غادين إلى المعامل والمزارع ببِشر وإقدام، والأطفال أيقظتهم وأفطرتهم أمهاتهُم يصحبنهم إلى الروض والمدارس، والأسواقَ عامرةً بالخضار مزدانةً بالفواكه، فوّاحةً على لسان الباعة يا فتأزح يا رزّاق، وفناجينَ القهوة تطوف من يدٍ ليد، مع الشكر لرب العالمين إذ رزق العباد يومًا جديدًا.وأتصور أني واقف في طابور لأخذ حصتي فطورًا قطعًا من(فلافل) العبسي، بعدها أقصد جامعة الأزهر أدرِّس فيها يستقبلني طلبةٌ عيونهم شغفٌ بالمعرفة وتطلعٌ للمستقبل، يطيرون أعلى سجن غزة الكبير بأجنحة الأمل فوق فلسطين، القدس وبيسان ليسا فيها أغنيةً بصوت فيروز وإنما أرضًا سيحررها أحفادُ كنعان، فهم بناةُ غزة منذ أربعة آلاف سنة خلت، أي قبل أن تقرّ الأمم المتحدة قرارها الجائر بتأسيس دولة الاغتصاب(29 نوفمبر 1947) تسلّم فيها بصفاقة مطلقة أرض شعب إلى ما سُمّي بـ (شعب بلا أرض) اعترافًا اعتبرته « يتعذّر الرجوع عنه وإلغاؤه»!
فكرت، غدًا حين يُنهي القتلة حفل المجزرة. غدًا بعد أن ييقنوا أنهم استأصلوا آخر جنين من بطن أمّ فلسطينية، ولم يبق رَحِمٌ لقضية، ولا فلسطيني سيولد (إرهابيًا) أو من سلالة «بشر كالحيوان»، أو كما جاء على لسان الكاتب النِّحرير الذي انتحر من علياء مجده الأدبي، لمّا قال (لا فُض فوه)» إن الحيوانات تأنف مِن فعل ما فعلوا» ويحَه، زايد في الدّم على جنرال سفّاح؛ غدًا، إذن، حين ستستيقظ ضمائر قادة(العالم الحر) والعالم الخانع، التابع؛ فكرت، ربما ليُكفّروا عن قتلهم آلاف الأطفال من مسافة صفر، ماذا لو أطلقوا على شوارع وأحياء مدنهم وعمّدوها بأسماء غزة: حيّ الرّمال، حيّ الشجاعية، مخيّم جَباليا، وهذا بالذات، تَلّ الهوى.
منذ أيامٍ وهي تمطر هنا في شمال الكرة الأرضية. متنازعٌ أنا بين جسدين وعقلين وإحساسين. في الجنوب أرض عطشى، وهنا مترعةٌ لحد الغرق، قسمةٌ في الطبيعة وبين الناس ضَيزى. سُقيت الأشجار، وانتعشت الأغصان، وتغذّت أوراقُها، دخلت مسيرتَها اللونيةَ المُتغنِّجةبدلال، من الأخضر الفاتح، إلى الأصفر المحتشم، إلى النّاصع، وبعد أن تستحم تحت الشمس إلى الحِنّائي، إيذانًا لخريف يرحل. لو تفطننا إلى دورة الفصول لانتبه الخلقُ المتجبِّر المستهتِر منّا أننا جميعًا سنرحل. هنا، من حيث أكتب، الأصفر ذهبيٌّ يبز ببهائه شعاع الغروب، ورقصة ألوان قُزح غِبَّ المطر، ثم سيذهب. كي لا أُتهم بسلوك البطر أسأل ماذا أفعل بهذا البهاء كلّه؟ وأسأل باستنكار، هل كِسوة هذا الخريف لي؟! انتظرته بشغف واستعجال. معه اكتشفت الفرق بين الفصول. لست فلاّحًا وإن تعلمت بالفطرة أن أشمَّ الوردة، وأقتفي خُطى المطر ولون الشجر.
طال انتظار للخريف هذا العام لكدتُ أيأس منه، وعزَوت شُحّ السماء ويباس العشب إلى يأس الأرض منا بعد أن خرّبناها باستنزاف خيراتها. زدت يأسًا أرى أحوالنا تنهار وأمتنا شعوبًا منهكةً بالاستخذاء. ثم جاء العصف الأهوج، إعصارُ القتل الإسرائيلي لم يفاجئني فهو يتكرر ليستأصل الفلسطيني الذي من أرومتنا ، وافرض نسيناه وتخلّينا عنه، فمن يُبيده اليوم سيَمحونا غدًا ويُصيّرنا عبيدًا. فجأةً، هجم الخريف الذي أحب فتجلّى فتنة، تأخّر ليخرُج الجمالُ من مكامنه، ومن غير قصدٍ ليُغيظني أنا عشيقه أراه عنه أزْورَّ، يَطرُق باب العين والقلب بقوة، لا أفتح، يُلحّ: ما بالك يا هذا لا تجيب؟! كيف أقول له إني أخجل منّي إذ أتملاّه وأتبتّل في صفاته؟هل سيفهمني لو خاطبته إنك جئتَ هذا العام في غير أوانك، ماذا لو رجعت القهقرى وحجبت وجهك، فما لي بعينين تريانك. صدري ضاق، ما عادت له أمام المَحق قدرةٌعلى العناق، فكيف بعاطفة واشتياق. تصطفّ الأشجارُ في طريقي تنحني لي،أتوهّم تبارك خطوتي، تحسبني جئت أحيّي ذهبيَّ ألوانها، فأمر بقربها تحتها كالسّاهي لا يبالي، فتتلفت لبعضها انظروا نتيجة تكبُّرنا تأخّرنا عليه طويلا هذا العام، ربما بسوانا هام، أو لعله هجوم الغمام، استقرّ فوق الرؤوس وسوادُه استدام.
مدت لي شجرةٌ غصن مدام. كأسك، اليوم خمرٌ وغدًا قيامة، وأنت على غيلان البغي قوّام. واصلت سيري، أعي كمهو فاتنٌ فصلها يرميني من جديد بكيوبيد الغرام، فأمضي لا أتلفّت، هم لم ينتظروا، أسرَجوا خيلهم وامتطوا صهوة الطوفان. لا وقت للخريف هذا العام، وما من فائدة لمخاطبة السّفهاء، قد أعيانا أمرُهم أن يستحوا، لا نخوة لهم حتى وهم يرون السماء تستبدل لونها ببياض الأكفان، والأعداءَ يقتلون الأطفال الخُدّج ويردمونهم تحت الحطام. هل أعجب بعد، إسرائيل تقوم بالتطهير العرقي، وآخرون يردّون عليها بجلب المطهّرات لمراحيضهم وقصائدهم وخطبهم ومهرجاناتهم ويتزيّنوا بألقابهم ويتمطّطوا على الكراسي القديمة والجديدة؛ ومع ذلك لا فائدة، فمنذ أن كتبها صنع الله إبراهيم(سنة 1966) وعطَنُها يفوح « تلك الرائحة»!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 29/11/2023