أنا أحب، إذن أنا من المترفين!

أحمد المديني

 

أعيش بين حالتين، حاضري والقادم الغائب. ما أعيشه بجوار ما أرغب فيه، وأبعد. وبما أنني ألِفت التعايش مع هذه السكيزوفرينيا، أثمرت بذاتها حالةً ثالثة، فإنني صرت في حِلٍّ منهما معاً، وانتبذت في الوجود مكانا أراقبهما منه، بينما أمضي في حياتي برضا ما أمكن بعيداً عن الغباء. هو موقع واختيار عسير المنال، لن تبلغه، إن سعيت، إلا بعد مسارات حياة تعجن فيها ذاتك مع مجامعك كلها ممّا هو خارجك، وإن كنا نحن أبناء أوطان الجنوب لا نملك حق الاختيار إلا بين الهاوية وطريق الاحتضار، عندما يكون كلّ قرار منزوعاً منك منذ الرضاع. الحرّ له القدرة على نهج خيارين وأكثر، ومن يفتقد حرية قراره وإرادة الاختيار ليس قدره الاستسلام والهوان، أفراداً وجماعات، يفترض أن ينتزع هذه الحرية وإلا فما وُجد ولا كان، سبقني إلى هذا المعنى قطَري بن الفجاءة وتواتر ليصل إليّ، هكذا نحن العرب كنا، ومن عاكس فليس منا:» وما للمرء خيرٌ في حياة/ إذا ما عُدّ من سقط المتاع»
في اليوم الموعود لما يُسمى عيد الحب، ألفيتُني أختبر نفسي بين أحد الخيارين، وأسأل بداية أيّهما المتاح، وهل لي موقع بينهما، فأتصرف بفطرة الإنسان الذي ولد هكذا مُحِبّاً وجُبل عليه، ثم ارتقى سُلّم المشاعر وصُدف الحياة وارتمى في حضن ثم ذاق الشهد ثم طار شَعاعا في عصف العاطفة؛ أم أسأل من أين لي، لنا، نحن الذين ولدنا في شحّ المشاعر وضنك الأيام، مشدودين بين قوس الحلال ووتر الحرام، أن نعرف الحب، وكل من يتغنى به يصبح مثل» أبله القرية» يُشار إليه ببنان الخبل. تربينا على الحرمان، إن رأيت لم تر، إن سمعت لم تسمع، الصمم والخرس والعمى والخفر خصال، وكم من حجاب وباب واقرأ آية الكرسي عساك تمرح في رياض الحبيب، إن أنت وصلت فالأرض سهلا وجبلا تهتز دك دك بالوجيب. الحب عار القبيلة لو اشتهر، وأنت منذ صباك تركض في فيافيه، تهلك، تصرعك جنّه منه لا مفر.
الأسبوع الماضي، وفي أعوام خلت، كان يوم الأحد، والناس الذين في حَجْر وقهر فجأةً التقوا، نظروا إلى بعضهم دهِشين، كأنما يسألون من هم، من نحن، أتراهم خرجوا من صلب لا أحد؟ كان الموعد الذي يسمى عيد الحب، وأنا وسطهم في السوق الأسبوعي للحيّ عدِمتُ فِطنتَهم، ورغم أني كلّي ظمأ واشتهاء، حتى الهواء أعبُّه عبّاً من خلف كمامة ولا ارتواء، ولم يخطر ببالي، أنا من تقاذفته الرعشات والخفق احترار الجسد طوّحت به المدن بين الأيام والليالي، من أجل نظرة، نظرة واحدة إذا كنت في فاس وحُفت إلى المدينة ستتبع العين وأنت في حضرة وجذبة، منها يحرقك العطش وأنت أمام عين تسيل، خذ اشرب تُناولك من كفّها ذات خدٍّ أسيل. كيف لم أتذكر أنه العيد، قلت لم نعرف هذا كيف والوصال دونه خرط قتاد وقيد حديد. في تلك السنوات العجاف، نحن الذين كنا نتسابق للجلوس في الصف الأول من كراسي السينما، من أجل أن نغرق مع البطل وهو يغوص في بركة الشفتين، وبنات جئن بعد سنوات يتنهّدن أمام سعير القبلات، يصل اللفح إلينا، تقع بقعة ضوء فوق كرسيين في زاوية من الصالة على فتى وفتاة، متلبسين بجرم قبلة، حدث لي هذا وأنا يافع في حديقة بالدار البيضاء بوقت وجيز على ذلك اليوم الأحمر، وجرّني مخزني إلى مقاطعة بوسمارة، من أجل شروع في قبلة، فقط. لا، لم يكن حبا، كان اشتهاءً، رغم الأقمار، ونجوم الليل نحسبها عيون الحبيبة تومض شعاعاً في النهار، كان جوعا لما يخفق بين جلباب وكاحل، وبياض عواتق فاس ينحدرن نحو الضريح وألسنة (الطالعة الصغيرة) تمطرهنّ بسحاب المديح رمينك بنظرتهن فغرقت، ففاس بلا ساحل.
تذكرت ما اعتدت وأنساه، لم أُجبَل عليه. الرجال وهم منضبطون عيونهم تُكلم الباقات عيل صبرُهم قبل الطلب، والحيرةُ بين الورود والألوان، وسؤالٌ حريقٌ على اللسان، سيعجبها لن يعجبهاـ كيف سيرضون الحبيبة، لا يهم من هي، حالها، المهم هذا يوم لا يعوّض وفاء للحبيب. هؤلاء كانوا يعرفون جيدا من هم، نَمَت أعمارُهم ومشاعرُهم في سلسلة من المعارف والعواطف والتقاليد والمُثل والقيم، صواباً أو خطأً استقرت باتوا يشمونها في الهواء وبالحدس تُعرف، كذلك كنا في زمن اختلف، لا جميل لا قبيح، إنما كان متصلا وذا معنى، سعت أجيال لتنقله إلى مدار التجديد، في الثقافة والاجتماع والسلوك والسياسية، أي استرجاع سيادة أولا، ثم امتلاك ما ليس بأيدينا من حقوق، وأن نفهم ونوجد بتفكير وخطة هوية متحركةٍ نافضةٍ لغبار البلى مكتسبةٍ لجديد التقدم وما يليق بشعب من كرامة وعدل ونماء وحق في الحياة فقط. هذا رآه غيرنا وما زال كثيراً علينا، ربما بعض الخبز يُقتسم، أما تلك الكلمات الكبيرة التي تلوكها ألسنةٌ طائشة فهُراء، إما مستوردةٌ أو منقوعة بسُمّ الشعارات، ثمة من يسود وثمة من يُداس، لو قال أحدٌ يا سادة العام خصب وانظروا الأرض أينعت بعد يباس، جاءهم الجواب فوراً تَبيد في الخيال الأحلام العظام تُبدد الأوهام تُدخل السلاحف رؤوسها فكلّه وسواس خناس.
هل نحن أحياء، أم في غرفة حفظ الموتى في انتظار طبيب شرعي ليوقع شهادة الوفاة، من غير أن يتحقق أن جريمة ما اقترفت، أو أن الجثث تعفنت فات أوانُ دفنها فليتلف الرفات؟ لا يستطيع الكاتب العربي مهما أوتي من تفاؤل وعاش في رخاء، أن يكتب برأس صافٍ خالٍ من صراخ الضحايا وعويل الأمهات البنات السّبايا في مفارخ الإماء، الكلمات جفت لا أحد يسمع الصهيل ولا عين من أجل لا شيء تذرف البكاء، قبلي أطلق جبرا إبراهيم جبرا صرخته في ليل طويل(1955) هو حبل مديد من الصمت مجدول في مدارات الفراغ والمرارة والرياء، نرقص فيه جميعا داخل مضمار الوباء لا هذا الكوفيد، نزهة عابرة حتى وهي فجائعية، أتذكر الآن، وأنا أجالس عبد الرحمن منيف خلال إقامته الاضطرارية بباريس أوائل الثمانينات وهو مثخن بجراح « شرق المتوسط»(1975) يقول ويعيد:» ليلنا طويل وسيصل الدم حتى الرُّكب». لهذه الأسباب، وبرغم ما في القلب من جراح وبي من عذاب، وبعد انقشاع السراب، معذرة، اعتبروني من المترفين، سأقلب كوجيتو ديكارت وأقول: أنا أحب، إذن أنا من المترفين!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 24/02/2021