«أنا لا شيء يعجبني، أحاصِر دوما شبحا يُحاصرني»!

أحمد المديني

 

كان أستاذنا محمد عبد العزيز الدباغ رحمه لله ونحن تلاميذ في مطلع الستينات، تلك، في ليسي مولاي ادريس بفاس حيّ لله أرضَها من ثرى، إذا حضرت حصة الإنشاء، وتهيّأ ليكلف المتفوق بيننا لقراءة إنشائه تَخفِق القلوبُ وتَشرئِبّ الأعناق، من تراه ذو الحظ السعيد سيصبح محط ّالأنظار، ومن سيرتجِف كذلك فَرَقاً من مغبة أن يَلْحَن أو يلثَغ أو يَخيبَ ظنُّ عالم القرويين الجليل والأستاذ العصري البليغ فيه. ثم وقد أتمّ المحظوظ القراءةَ وخرج ناجياً من الامتحان، التفت إلينا أستاذُنا وجدد التوجيه والتنبيه والرجاء، يا أبنائي، أوصيكم ببناء الموضوع بإحكام، مرتّباً من مقدمة وعرض واستنتاج أو شعور، بفكرة وسلاسة ووضوح.
كنا نخرج من الليسي وكلٌّ يتطلع إلى أن يكون البطل في الإنشاء القادم مثل أبطال أفلام سينما بوجلود، نمرّ أمامها نقف هُنيهةً تتلمّظ شفاهُنا قبالة شهيوات (مطعم بوعياد) ولا حيلة، نتفرق إثرها بين(الطالعة الصغيرة) و(وادي الصوافين) و(زقاق الحجر)وفروعها الحلزونية، ننال في بيوتنا ما تيسّر وننام قريري العين، وفي الحلم نكتب إنشاءً سلساً بمقدمة وعرض وشعور ونحلم بالبطولة وثناء سيدي عبد العزيز الدباغ. كان ذلك في زمن بسيط ككسرة خبز، وأبيض كالحليب، وخالص بالصدق كركعتين في مولاي ادريس، رقراقٍ بالمحبة مثل سقاية الياسمينة في (عدوة الأندلس)، كان. لماذا أستدعي الآن هذه الذكرى اليوم بالذات، بالأحرى تغزوني ذكرياتٌ وأسترجع الصبا والزمنَ الغضّ، حتما، بسبب الإحساس بالفقد، لا العمرِ الغاربِ، وإنما الأمل ٍالهارب، ما قبضنا عليه جمرا واجتاح تلك السبعينات العنيفة عصفاً وغمراً، ثم تداعينا للتلاشي والنسيان والبكاء، ودفنّا الجراح وبقينا أشلاءً، ابتُذلت هي ودموع الأمهات في شعارات الهُراء، وتركنا تُجارا وفُجّارا ودجّالين ومنا سفهاء يسرقون شعلة الأولمب ويتاجرون حتى برفات الأنبياء، وفي الأخير، لا ضمير متكلم، لا مخاطب، لا ضمير قط، هل نحن هنا أحياء؟ هَب نحن أموات في بلد آخر، فمن سيُصلّي علينا صلاة الغائب والكلّ غائب؟!
أقول هذا لأني أفتقد الوحدة، وأمشي في الضباب رغم أن الغيم لم يتكاثف بعد، أنتظر حفيف الخريف مع رعشة الثلج في كأس المساء، وعندما يصعد البخار من مدخنة الليل تجسّ أصابعي جسدا بالحدس، أعلم أني مصابٌ دائما بمَسّ، لا أستعجل الشتاء أبدا فالخريف موطني، لكنه البرد وصل، والعباد طال انتظارهم أن يصيبوا ولو نزراً من حطب البلاد، يقال إن في الغابة غولا قد روّض جمْع الوحيش، وما في بطنها من ثمر وماء وجنادب يكفيهم بالكاد، فلا تعتبوا إذن، اصبروا وصابروا،، وغدا تعود اللعبة كَرّة أخرى، بضع سنين فقط ويحُلّ الميعاد!
أكتب هذا لأني كي أكتب أحتاج إلى الوحدة الموضوعية، هذا ما كان شيخنا في النقد الأدبي أمجد الطرابلسي في شهادة النقد زمن إجازة الآداب الصحيحة يشدد ويؤكد عليه وهو يفكك ويحلل النص بأدق من دعوة إليوت، أو يتحذلق متأخرون بتفكيكية دريدا ودراويشها، ويعيد تركيبه، فإن افتقدها فلا نص، كيف يمكن أن تكون حياتنا، إنسانا ومجتمعا واقتصادا وسياسة وثقافة وأخلاقا نصا منسقا بقواعد ونُظم وعناصر وبنية، كلها قابلة للنظر والقراءة والفهم بأدوات العقل والقلب أيضا، لا أمشاجا. ولقد تهيأ لها في زمن سابق مشروع لصياغة هذا النص ببرامج ورؤى ومطامح، ثم تهافت وصار مزقا مُزِّقَ تمزيقاً عمداً وشططا، وتبعثرت حروفه كما تتبعثر أوراق الدعاية الانتخابية في الطرقات والأزقة في حملات (الرّدح) وإطعام الجياع، ثم تذروها الريح وتدوس كلماتِها الأقدامُ والمفوّهون وسماسرة المصائر الذين لا يعرفون ما هو النص، لذلك لا يميزون بين الأصيل والزائف، السليم والمرتق، لأنهم زائفون!
لم أخُض في معمع السياسة يوما كما يخوض عُبابَها المحترفون والطامحون، كنت فيها لا منها، وعاشرت كبارها ولم أتبعهم حاجبا ولا حاشية، خطفتني مبكراً جنيةٌ وقبستُ نارا من جبل، لذلك لا ندمٌ يصيبني، لا عياءٌ أو ملل، سيّان عندي تقريبا قَصرٌ أو طلل، لي عديدُ قلوبٍ منازل، وأومن بجميع العقائد والملل، لله من أوجدها، وفي الكتاب لكلّ واحد أجل؛ وحين أنام أغلق هاتفي إلى شروق شمس لله، انتظاري هو سعادة الخليقة، وكيف أصون كلماتي من السخف والترهّل والزّلل. إلى وقت قريب كان المغاربة لا يرمون الصحف مع القمامة خشية أن تتضمن كلام الكتاب العزيز، الكلماتُ كانت مقدسة، وهي اليوم أوراقٌ مِزقٌ مبعثرةٌ وأقوالٌ مدنّسة، ولا يخشى من يؤدي القسم، أنه لن يبيع يشري من عرق شعب منذ عقود وهو يحمل مثل المسيح صليبه في طريق الآلام، ماذا يبقى منه وقد حنث بالقسم سوى جيفة وسقط رِمم!
وبعد، فلا شيء مثل احترام التعدد والاختلاف، في الفعل والسلوك والقول ضمن قواعد الاتفاق طبعا، وبلا إسفاف، إذ يتعلق الأمر بتعاقد اجتماعي ومن أجل ضمان الحق في الكرامة وسياسة الديموقراطية. ما هذا تنظير، لكنها مبادئ تُطبّق بمقتضى وعي والتزام وأخلاق. ومن أغرب الغرائب أن تسمع من يقفز على هذه المبادئ ويقلب الطاولة مثل أي مقامر أفلس أو في الطريق، يسوِّغ العِوَج والانحراف ونهش الخصم وقاموس البذاءة ومجاري الصرف الصحي وفي نيته أن يقود بلدا؛ ببرود يدّعي أن للسياسة أخلاقا غير الأخلاق، المقصود إما المتعاقد والمتعارف عليها تفرز بين المكارم والمثالب، الصالح والطالح، مقدّرة مثالية، واذهبوا أيها المثاليون ابكوا على الأطلال أو اسكنوا مدينة الفارابي الفاضلة، أيها السُّذّج نحن الأذكياء نأكل الكتف ونبيع القرد ونضحك على الشاري. إنما حذار، عندما يمَلّ الجمهور من الفُرجة وتكرار الحكاية وألاعيب الحُواة يهجر الساحة، وأحيانا يلاحق البهلوان، لأن من أخلاقه أن لا يُخدع!
بقي لي أن أقول كلمتي ما قبل الأخيرة، الحق سبقني إليها أبهى شاعر، محمود درويش وهو في رقدته الأبدية بقبره المنوّر في رام لله، قد خمنتموها، وأخرجها من الإضمار إلى عبارة التصريح، أي نعم، «لا شيء يعجبني». ذا قدَرُ الكاتب، وهو قدَرٌ مأساوي لو تعلمون، لا جديد تحت سماء تكتنفها الآن غيوم، الخريف حفيفٌ فوق ذؤابات الشجر، ستتلون الممرات بأوراقه وتذبُل الأوراق والعمر نزيف، وغداً شتاءٌ آخر، ومتى الربيع؟ الربيع؟، هذا حلم جميل، وطائر وديع، وإذن:
«اقتربنا من محطتنا الأخيرة، فاستعدوا للنزول/
فتصرخون: نريد ما بعد المحطة فانطلق/
أما أنا فأقول: أنزلني هنا. أنا/
مثلهم لا شيء يعجبني، ولكني تعبت من السفر»!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 22/09/2021