أوقاتٌ صافية من زمن مضى، وآمال ليتها تُشرق غدا

أحمد المديني
أضطَرّ أحيانا كي لا أكدّرَ صفوَ أيامي، وليلاَّ ينوء كاهلي بثقلها أن أتوقف ـ لا أذكر مذ متى وأنا أمشي أغُدُّ السيرَ كأني في مرتون وقتُه يركض بي في سباق لاهث وخفيٍّ نحو الموت ـ أضطر للتوقف، مرة لأستجمعَ أنفاسي وأستمدَّ من الإصرار على الهلاك ذخيرةَ الاستئناف، ما عاد لمثلي وقتٌ للاستراحة من وعثاء الحياة وإلا عليه أن ينزلَ من جبل الأوهام حيث العمرَ كلّه أقام؛ ومرة أخرى، أقف لأقيس المسافة في رأسي بين ما قطعته/ قطعناه، وما هو آت، وكي لا أَخرُج من جلدي غضبانَ غير مصدق أسِفاً أنّي الغشيم، وما خلفي صار كالهشيم. أقول، لا بأس سأتعلل بما مضى، فيه أوقات صافية وناعمة كالنّدى، وبُشرى تأتيك لمّا صرت نهبا للذئاب، والبلاد غاب، وقد ضعت سُدى، أقول فهمت الآن لماذا العربي كان يذرع الصحراء ولا يعيا ما دام ينشد القوافي في الفيافي، سأردد بيتيْ الشريف الرضى لعلّي أَشفي بعضّ الظّما، أشار إلي، يا خلّي وسلفي، غِّنني فما لنا عن بعضينا غِنى: «فوقفت حتى ضَجَّ من لَغَب ٍ/ نِضوي ولجَّ بعُذَّلي الركبُ / وتلفتتْ عيني فمُذ خفيت / عنها الطلول تلفتّ القلبُ».
أمس، أذكر نحن مواليد الخمسينيات، والوطن يتشكل من أحلامنا ويتلوّن كحلوى غزل البنات؛ أذكر أنّا كنا وعشنا بسطاء، لم نكن أغنياء ولا فقراء، بعضُنا في يُسر وبعضٌ في عُسر، لكنا أمهاتٍ آباءَ وأبناء، تقاسمنا الرغيف، واكتسينا فقط بما يستر الجسم النّحيف، وشمَمنا دائما نفس الهواء، وفي الأزقة المتربة والحقول المترَعة بأريج القرنفل ومَغيبٍ كالزّعفران، كلُّ واحد منا يحسب أنه السلطان، والسلطان وقتها في منفاه منزلُه في القلوب ونراه في السماء.
أمس أذكر في شهر رمضان، جميع الخلق يصومون رمضان، على الفطرة ولا يحتاجون إلى من يعلمهم وينهرهم ويتوعّدهم بعذاب السعير، لم نسمع بجهنم إلا باسمها النقيض، غضارةُ الحب من وجه أمّي نبع بفيض، أي بالجنة، فهي تحت أقدام الأمهات. في المغرب، يبدأن بإفطارنا وبعده يغضُضن الطرف عن شغبنا يستُرننا من غلظة الآباء فيُواربن الأبواب يخشين علينا وهن إنما يحمين قلوبهن من العذاب، وفي السّحور يُطعمننا ونحن نحلم في السحاب.
أمس أذكر لم يكن أحد في رمضانَ يجوع أو يهون. يحمل الزاد أولا للمحتاج وكلِّ مغبون. لم أفطر يوما قبل السائل والحارس وابن السبيل، ولا بيوتٌ تُرى أبوابَها موصدةٌ كزنازين السجون. ولا وجوهٌ مكفهرّة، وحشودٌ راكضةٌ قُبيل الآذان تحسبها هاربة من طوفان، وهي إنما لنهم وجوع عارم تُطلق العنان، تنسى التقوى والصبر وكم من خلق بينها نام ينام على الطّوى، وأبٍ أذلّه الفقر أمام أكباده وأمٍّ تبكم الشكوى. أمس لم نكن فقراء ولا أغنياء، يشهد الله في جميع المدن والقرى، في السهول والجبال كنا مغاربة بسطاء، وعشنا أبداً في إباء، وسبحان الذي أسرى بعبده من تلك الجزيرة العزلاء وقُدِّر لي وأنا طفل أن أراه مع شعب غفير في الدار البيضاء، يومها كنا نستحق وطنا وملكا رمزَ العزة والسؤدد ونعرف معنى الفداء.
أمس كنا شعب الأتقياء، نخاف الله ومنتهى رضا العبد حجّ البيت الحرام وأن تُغيث السماء. طبعا، وُجد منا لصٌّ، وفينا غشّاشٌ، وتسلل إلى صفنا خائنُ أمانة، ومُتاجرٌ بوطن، هذا يحدث في كل زمن ومكان، لكن، لم يغلب النّهابون يوما الأصفياء، ولا كنتَ تمُدُّ يدَك للمصافحة وتسترجعها لتجد أصبعا ناقصا وثانيا طار في الهواء، إن صادقت بودلتَ المحبة، وإذا صافيتَ جوزيت بالوفاء، القمرُ وحده يحرُس السّراة ليلا وجميعا نشترك في السّراء والضراء. اعذروني أبوح لكم بهذا ولمن شاء له أن ينعتني بالسذاجة وأنا أحمل وزر أثقال من تجربة الأيام، طفت بلدانا، وعاشرت شعوبا، ونهلت من ثقافات وأخيلة حتى امتزج دمي بدماء، لكني لم أقدّر أن تسودَّ إلى هذا الحد الوجوهُ البيضاء، لا تعتبر بالآية:» يوم تَبيَضُّ وجوهٌ وتَسوَدّ وجوه»، وأن أتلفّت بين شعبي وجنبي فلا أكاد أصدق ما أسمع وأرى، بلى أسمَعُها كذبةً بلقاء، نحن الذين ولدنا في الخمسينيات وتلانا خلَفٌ، ثم تلَف، أيضا، لم نعش ونعفّر الجباه بتراب هذا الوطن كي نراه تحول غنيمة ومزادا ومسغبة وذاكرة حُكراً للدخلاء، ونحن بتنا فيه الغرباء!
قلت لا أريد أن أكدّر صفو الأيام، ولا أنكّد عليكم في شهر الصيام، التّصافي والمودة فيه جدير أن يَعُمّا الأنام، والخير والتكافل مبتغانا فيه رفقة السلام. وبما أننا نفتقد كثيرا من هذه القيم في حاضرنا وتبدو ضربا من المستحيل والتحليق في الأحلام، وجدتني أغرف من بئر الماضي وأرخي سمعي ودلوَ الذكريات يصعد مع خرير الماء، يبلّ عطشي، حتى وهو ينكأ جرحي، لا بأس اخشوشن الجلدُ لم يعد متسعٌ لجرح جديد، الحبّ والفرح الغامر كلاهما يا قلب بعيد، ورغم سواد الليل، وبروك الخيل، وعودة القيد إلى الرِّسغ يحسب غرورا وظنّا سيوقف السيل، « وبرغم الحزن الساكن فينا ليل نهار/ وبرغم الريح/ وبرغم الجو الماطر والإعصار» الحب الهارب والفرح المنكّس رايتُه مؤقتا سيبقيان شعلة تضيءُ دربنا مهما مشَيْنا في النفق المديد.
من حسن الحظ أننا نحن العرب نملك الشعر مع القرآن محجةً بيضاء، أعرف أن هذا يُشعل السعار في بعض بني جلدتنا فقدوا لسانهم، وضاعت منهم، حسب ابن خلدون، العصبية، ومنهم من يعيّرنا، ومنهم من يخطط ليطردنا من ديارنا ويسمينا غزاةً فاتحين، ولا يتورع أن يتآمر مع الأجنبي بطرق شتى ليفكك وحدة ترابنا وقطع عروتنا الوثقى لا يزيغ عنها إلا هالك. قال تعالى:» فإن آمنوا بمثل ما آمنتم فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم»(البقرة 137). قلت إننا نحن العرب نملك الشعر وأنجبنا خير الشعراء علّمني:» « أقِل َّ اشتياقا أيّها القلب ربما/ رأيتك تُضفي الوُدّ من ليس جازيا/ خلقتُ ألوفا لو رحلت إلى الصّبا/ لفارقت شيبي موجَع القلب باكيا».
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 13/04/2022