«إن أعادوا لكَ المقاهي القديمة فمن يُعيدُ لك الرّفاق؟!»

أحمد المديني

 

1
ليس حنينا ولا ابتئاساً ما يَشُدُّ المرءَ أحيانا إلى الماضي، فيستعيدُ الأسماءَ والأماكن، يجدها اليوم حزينة، وبالأمس، كما لو أنها بقلمِ ونَفَس مارسيل بروست مرسومةٌ مترعةٌ بالسعادة ملءَ الحياة. يتندّرون على النوستالجيا بنعت الرّثاثة ونّبرة الغثاثة والحديثِ الأسيان، بينما يغوصون في وحل الابتذال واللجوء إلى أرقام وتوقعات المستقبل المجهول هرباً من حاضر مُقعّر بالأكاذيب والثقوب، لا يُسعِف سوى بالعيش يوما بيوم فقط، بينما العمرُ الحقيقي أزل.
2
الرومانسية المحبوسةُ عند الجهال وبُخلاء النفس في صِيَغ التأسّي وذرف الدموع على الحبيب الأول، هي أول ثورة في العالم، ومنها تفجرت باقي الثورات، لأنها عبّرت عن مطلق حاجة الإنسان إلى ذاته وفسيحِ حريته، ولذلك ينتسب إليها جميع الشعراء، من العيار الصحيح.كلُّهم، بالطبع، غاضبون ورافضون، ويطمحون لتشييد عالم بديل، ومعتنِقون لمُثل عليا يرسمُونها بالاستعارات. لذا الشاعر، مثل الثوري لا يُصالح أو يستسلم، ويوثر العيش في حريق أمس على حاضرمغلق بالتوافقات، تنطفئ فيه موهبتُه، وهويتُه رماد، قردا يقلد ما فات من شعارات ويستأذن شبحا خلفيا أيّ الكلمات ينطق بعد أن أضاع القاموس وسوّست دودة الخنوع لسانَه.
3
الذين يكرهوننا ويخافوننا رغم نحول أعمارنا يدْعوننا إلى النسيان، في الأحاجي وحدها يقال كان يا ما كان، وللتّلهّي وجلب النوم تُروى حكاياتُ في سالف العصر والأوان، أفيقوا من أوهامكم، يَمحضوننا النصحَ بسخاء، انفُضوا عنكم غبارَ الحنين وقشّروا ذاكرة ذلك الزمان، يُلحفون في الطلب بغباء، مهما يكن غصْباً عنكم اليوم أصحاب الدار، ناس الوقت وكل زمان. لا جدال، منذ وقت توخّى حِمام الموت أفضل الرجال، وبقينا بعدهم أشباحا نحيا جزافاً ونمشي أشبهَ بالظلال، نتعثر بين الخطو والسّطو لا نكاد نميّز في الناس والطريق بين الحق والضلال.
4
لا جدال، ما زال منا الواقف الصامد بعناد، مستميتاً بأن الأرض تحته تميد، ومهما أدلج ليل البلاد غداً سيولد يوم جديد، حتى والوعدُ طال وبَعُد الميعاد، وصهيلُ الخيل خفَت والبغالُ صارت هي الجياد، لم تكن القبضاتُ، والشمس حاميةٌ من العيون وبركانٌ في القامات، مجرد وعيد، نعم، المدن التي فاضت أمس هتافا ودوّت صرخات، مقابرَ خرساء، أضحت وطحين جماد، وتراكم بعدها بناءٌ فوق بلاء، مساكنُ أحزاب، مناصبُ كالفخاخ لصيد واستقرار الفراخ، سبحانك يا واهب العباد، لكنا نملك نفْسا لا تحيا بغير إباء، ونستحق أفضل من نِعال الأوغاد.
5
وماضينا بما فيه من أخطاء وتبعات، لنا فيه نصيب عزٍّ ونفحات. أجل وأفخم من أن يعبث به عابرُ طريق ويحوله بخطوط قلم ورسم بيركار صناديق وشكلَ مكعبات، لا يهمّ الجمعُ بين المتناقضات، فالحداثة كما يعلم الفلاسفة والفنانون والمعماريون تفرّعت إلى حداثات، فلماذا لا نجعل مثلا مبنى المركز الثقافي المغربي في باريس شكلا هجينا على صورة المغرب نفسه، وفي قلب شارع سان ميشيل قبالة حديقة اللوكسمبورغ، علامة ومزارا فريدا للشّوْهات.
6
كأننا بلا تاريخ، لم نملك طريف الحضارة والتليد. الأندلسُ تاج، وفاسُ وتطوانُ وسلا عقيقٌ ولؤلؤٌ في عَقد معمار فريد. وها الحمراءُ الزاهية أقواسُها والأعمدةُ خصورٌ وأناملُ راقصةٌ ونشيد. ولا أنت إذا حُفتَ من باب أبي الجنود، نزلتَ من زقاق الحجر إلى سوق النجارين سلبتك العيون تلهو بك الحضارة في كل حين، حتى لتفقد اليقين، تسأل أين أنا عند باب مولاي ادريس، وتناديك القبة زرني فيشهق في دمك تكبيرُ الفاتحين، واحرّ قلباهُ من لظى هذا الحنين، ويعبث بهذه العراقة، الجرذان، علّموهم فن المحو والهدم، ونسوا أن المغربَ راسخ البنيان.
7
الرقم 115 من شارع سان ميشيل مكانٌ مسجل في تاريخ الوطنية المغاربية المغرب صدارتها ولا يستحق الهوان. هنا كان مقرُّجمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين التي تأسست سنة 1927، ومنها انطلقت في العاصمة الفرنسية جذوةُ مواجهة الاستعمار، ومرافقة الطلاب المغاربة في ظروف دراستهم وعيشهم الصعب، وأصبحت بمثابة نادٍ للحركة الوطنية في المغرب العربي، يكفي أن نذكر من أعلامها مصالي الحاج، علال الفاسي، محمد حسن الوزاني، المهدي بن بركة، الحبيب بورقيبة. فهي إذن معلمة تاريخية وتراث وطني، طالها الإهمالُ وقتا مديداً إلى أن توفرت إرادةٌ لإحيائها وقد آلت إلى الخراب، لكن لا بثمن عبث، خسِئت يدُ العيب يا فلان.
8
الصديق الذي انتقل لظرف وظيفي من الجنوب لسكنى الرباط، استأجر بيتا في حي كبير على أطراف العاصمة(الرياض). ذكر لي أنه مرت عليه الآن أعوام وهو يتنقل في متاهٍ بلا عنوان، بالأحرى في شبه مزرعة بلا سياج، وأوهمه السمسار أنت ستسكن في أحسن ما في العاصمة من عمران. قال إني سرت أمشي وأتنقل بين شوارعَ وأزقةٍ لكي أهتدي فيها يجب أن أحمل بين يدي قاموسا للنباتات والخضر وليتها الرياحين والأزهار: زنقة البرقوق، السفرجل، الحامض، لا بأس بالنخيل والليمون، زد عليها المشمش وبوعويد، والله العظيم زنقة اليقطين، ويزيد قائلاً دار في رأسي أكثرُ من سؤال واستغراب، فأجابني عابرُ سبيل دعك من هذا أنت فعلا غريب وبرّاني فبلّعمان أفضلُ من اسم عابد الجابري وفاطمة المرنيسي وأحمد البيضاوي.

بقية ص: 3

9
.. ذلك أني كلما مشيت في شوارع مدن مدنية غربية اضطررتُ أن أقطع مشيي مرات. أتوقف عند رأس كل زقاق لأثبِتَ اسمَه في رأسي، وأراجع في الوقت ثقافة محفوظة عن المكان، ألاقي شاعرا وفيلسوفا وعالم فيزياء وزعيما محرّراً وسياسيا محنكاً ونوبليا وكثيرا من الضباط من الغزوات؛ إنني إذ أتجول أتنزه في دائرة معارف، وفي غير موضع أجد نُصُبا تحمل بطاقات تعريف ومعلومات، ويحدث أن أتحسّس الجدران شمّاً ولمساً يستهويني شكل البناء وفخامة الأبواب فأقرأ على بطاقات صخرية هنا سكن الفنان، الشاعر، أقام العالم، القاضي الشهير، مغنية الأوبرا، في هذا الفندق أقام أندري بريتون، وطاولة سارتر ودوبوفوار يؤمّها في مقهى لي دو ماغو بالسان جرمان الزوار، مثل تمثال صغير لبيسُوا في لشبونة، وفي الدار البيضاء وفاس ومراكش مبانٍ تاريخية ومعالم تحولت خرائبَ ومبولات عمومية.
10
ثم أقول، ينبغي أن أقطع دابر الحنين، أو سأموت بالغصص قبل الأوان، وإني أموت فعلا بلا أنين. افترض عدتَ اليوم إلى مرابع العنفوان في الدار البيضاء، بين درب السلطان والجندي روش، وعند مدام غيران في ما كان يسمى ساحة مرس السلطان قبل أن تصبح مرتعا للقمامة والذّبان، لن ترى ما يَسُرّك، جوقٌ ينزل من السماء إلى الساحة يواصل عزف جناز تشييع بعد جنائز، الذين أحببتَهم رحلوا وتركوك في أيام عِجافٍ عجائز، هَب فتحتْ لك المدينة فتحاً مبيناً، ورأيت الناس يقرؤون رواياتك من ” رجال ظهر المهراز” إلى ” رجال الدار البيضاء” كأنهم يُرتلون طورَ سنين، لن تستعيد ذلك الحبَّ الدفين، جمرهُ ملتهبٌ تحت الرماد، كم صار بعيداً الطريقُ إليك أيتها البلاد، أنا الذي يكلم من تبقى فيك كمن يخاطب الجماد، لا حيلة لي بعد فقبل رحيله وهو يخاطب نفسه في نهايات الطريق واساني محمود درويش ذات ميعاد: ” إن أعادوا لك المقاهي القديمة، فمن يعيد إليك الرفاق؟”.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 23/02/2022