إيديولوجيا الفساد
مصطفى خلال
حين يجري الحديث عن النظام الديمقراطي، ويثار سلم القيم المرتبطة به، فانه لا يثار معه الموقف الفلسفي من الفساد، العدو الرهيب لنظام الحكم الديمقراطي. من يذكر مثلا أن أفلاطون، فيلسوف العصر الإغريقي القديم، وقف في نسقه الفكري العملاق، على معضلة (الفساد) في علاقته بـ (السياسة)، وبالأخص في الحوار السقراطي حول (العدالة) في ارتباطها بـ (الحقيقة) وبـ (السياسة).
فقد انتبه في ذلك الزمن البعيد الى علاقة فشل السياسة بالجهل الجماعي، الجهل المنتصب كمبدأ سياسي. والجهل كما هو مسلم به، هو جذر كل العاهات ومن ضمنها الفساد. وهكذا انصب نقده لديمقراطية أثينا في كتابه الشهير: (الجمهورية)، مركزا بحثه على مفهوم (العدالة) وذلك لتحقيق غاية بعيدة تتمثل في إيجاد أفضل نظام للحكم يجسد هذه العدالة.
نحن نتحدث هنا عن فترة قديمة جدا بالفعل. تكفي الاشارة الى أن أفلاطون ولد في العام 428، وتوفي بأثينا في العام 348 قبل ميلاد المسيح. وهو ما يعني أن أفلاطون الذي شدد في فلسفته على الضرر البالغ للفساد، فساد الأوليغارشيا المتحكمة في مقدرات المجتمع المتفكك، وفساد الشعب الغارق في تحقيق مصالح فردية على حساب المصلحة العامة… صاغ لأول مرة في تاريخ الديمقراطية التي عاصر نشأتها الأولى في أثينا وتابع بدقة وحرص شديدين تفاصيل المناقشة العامة والجدل الواسع اللذين صاحباها، نقول صاغ نظرية متكاملة اعتبر فيها أن من بين أعتى العناصر خطورة على الحياة السياسية يبقى عنصر الفساد أشدها فتكا ليس بمظاهر السياسة، بل بجوهرها نفسه. وهكذا اهتم أفلاطون بمجادلة السوفسطاءيين معتبرا اياهم يفسدون الخطاب حول السياسة، وذلك بممارستهم التحريف الذي يمس الحقائق الثابتة. اعتبرهم يلهون الجموع بأسلوبهم الخطابي الرنان، عن الفساد الذي ينخر ديمقراطية أثينا. ومن أجل مواجهتهم لجأ الى استرجاع فكر سقراط، وفكر فلاسفة نظريات (التغير الأبدي) الثلاثة: (بارمينيدس) و(هيراقليدس) و(وفيتاغورس). وهو ما قاده الى بلورة فلسفته حول القضايا الأربعة الكبرى ومن ضمنها (السياسة) والتي حررها جميعها في شكل حوارات، ويهمنا منها اليوم في مقالتنا هذه حول (ادلوجة الفساد) تحليله لنظرية (الخير) ونظرية (الجمال)، وكلاهما مناهضان لـ (الفساد) الذي يطابق (القبح) المادي والقبح الأخلاقي و(الدمامة) المادية والدمامة الخلقية.
كانت هذه اللحظة الفكرية في زمن الاغريق ذاك على جانب كبير من الأهمية، سواء في الشق المتعلق بمعاصرة النشأة، نشأة الديمقراطية، أو في الشق المرتبط بالنقاش العمومي. ويحتل هذا العنصر الأخير مرتبة عليا على رأس قمة الانشغالات التي طوقت عقل أفلاطون. فنحن نعرف أنه عاصر أستاذه ومعلمه الأكبر، سقراط الذي خاض معارك فكرية قاسية ضد أخلاق الفساد قادته الى السجن ثم الإعدام بالسم بعد محاكمة نظمتها له سلطة الأوليغارشيا، متهمة اياه بإيقاظ عقول الشباب الذين كان يعتبرهم السلاح الأمضى لمناهضة الاستبداد والغطرسة وتغول الأقوياء على الضعفاء.
ف ((الفلسفة السياسية)) لدى أفلاطون تعتبر أن المجتمع العادل (المدينة) يجب أن يتأسس على قاعدة ((الخير))، و((الحق)) و((الجمال)). وهي عنده ليست قيما فقط بل مبادئ يتعين أن توجه سياسة الحاكم العادل الذي يضع نصب عينيه ليس تطبيق هذه المبادئ وحسب بل الحرص على مراقبة مناوئيها المتخفين والذين هم على الدوام، مستعدون للعبث بعدل مدينة الحق، أي العبث بفضيلة المجتمع العادل. والحاكم هذا، عند أفلاطون، لابد أن يكون ملكا فيلسوفا. ونحن اذا غضضنا النظر عن هذه العبارة، عبارة ”الملك الفيلسوف”، ومددنا نظرنا الى ما هو أوسع، نستنتج أنه لا يمكن أن تكون المدينة فاضلة ومن يحكمونها لا يملكون علما ومعرفة ومستوى متقدما من التعليم.. ومستويات من الوعي بشروط تحقيق ((الحق)) و((العدل)) و((الفضيلة))، مستويات متقدمة.
لقد كان لفلسفة أفلاطون تأثيرا بالغا في الفلسفة الإسلامية وفي الفلسفة الغربية. مثلما كان لمفهوم ((الفضيلة)) لديه، أي كل ما يناهض الفساد موقعا مركزيا في حواراته. وهو المفهوم الذي يوجز كل الشعارات التي يتقدم باسمها من يرشح نفسه لانتخابه بغاية تحمل مسؤولية خدمة مصالح الناس…وهم هؤلاء الذين يتقدمون لخدمة مؤسسات المجتمع..أي لتحقيق سعادة الإنسان في ((المدينة الفاضلة)).
لم تعش ديمقراطية أثينا التي انتقدها أفلاطون انتقادا ساخرا سوى زمنا محدودا. مرت قرون وقرون طويلة كي تبقى مجرد ذكرى سياسية. لكن التاريخ العام بجهر الفكرة، احتفظ بها ككنز ثمين ستنبش عنه نظم ثورية قاهرة في بلدان الغرب سواء في الثقافة الفرنسية أو الانجليزية أو الجرمانية. لكن تصور أفلاطون للفضيلة وحربه المبطنة ضد الفساد لم تجمد أبدا، ولم تقبر قرونا كي تحيى من بعدها، ظلت حية باقية بقاء أبدية الفكر والروح. ومثلما احتفى بها أبو نصر الفارابي ، انتصر لها مونتيني وهيوم وهيجل ولينين وماوتسيتونغ وغيرهم كثير كثير..ومن هؤلاء من كان ملكا فيلسوفا مثل هذا الأخير والذي قبله. وكما نرى فان هؤلاء جميعا مختلفون اختلافا كبيرا حين يتعلق الأمر بأنساق فلسفاتهم، غير انهم مجمعون على رجحان الفضيلة في نسق الحكم، وعلى عدوها الأعتى: الفساد.
فهل تحققت ديمقراطية أثينا من جهة وفضيلة أفلاطون من جهة ثانية هل تحققتا في العالم؟
هكذا سيسأل القاريء النبيه.
نعم، تحققت بصورة أو بأخرى بتضحيات جسيمة وثورات حفظها لنا التاريخ، اذا نحن قصرنا النظر على نظام الحكم (الديمقراطية) (الاقتراع العام) (الانتخابات) ( البرلمان) (شكل حكم المدن) (المراقبة) (المحاسبة) (القضاء المستقل يخضع له الجميع بمن فيهم رءيس المدينة ) . بل انها لم تتحقق فقط، اذ تحسنت وتعمقت وتوسعت وترسخت..وعلى مراحل..(لم تمنح المرأة حق التصويت في سويسرا الا في العام 1950).. الى درجة أنها أضحت (الديمقراطية) معيارا عالميا للحكم على نظم الحكم وأنساق تدبير شؤون الفرد والجماعة..فتكون مقبولة وذات مصداقية اذا أخذت بها أو تكون مرفوضة متحفظا عليها اذا اختارت نظاما للحكم مغايرا حتى وان كان هذا النظام أكثر عدلا من حكم الديمقراطية و”أكثر” فضيلة من ((الفضيلة الأفلاطونية)).
والآن يتعين علينا حتى لا نحبط السائل ان ننزل من عالم المجرد الى عالم المحسوس علما منا أن هذا السائل الظريف يعنيه أكثر ما يعنيه كيفية إيقاف الفساد عند حده. فقد قلنا ان الديمقراطية أمست نظاما عالميا الى درجة أن الذي لا يأخذ بها يقدم للناس أن له نظاما يعادلها بل — في تقديره هو — أفضل منها.
ذلك أنه أصبح مسلما به ألا علاقة شرطية للديمقراطية بثبوت الفضيلة وانتفاء الفساد. فالديمقراطية مثلها مثل أي قضية أخرى، يمكنها أن تكون موضوع ”نصب” وفضاء ”احتيال”. يقيم هذا النظام أو ذاك نظاما ديمقراطيا في الشكل، سلطويا مستبدا في الجوهر. وفي حال ما اذا كان غير سلطوي ولا هو مستبد فان بإمكانه إقامة ديمقراطية شكلية بمحتوى متعدد في أشكال وأنواع وأنماط الفساد.
وفي هذه الثنائية ذات التطابق في الانسجام التام بين ديمقراطية الحكم وفضيلة التدبير عند قوم (دول الغرب)، أو ذات التنافر في التعارض الفج بين شكلية ديمقراطية الحكم وتغول الفساد عند قوم آخرين (كل البلدان المغاربية بدون استثناء). انه لا يمكن تصور – ولو في الخيال – تنظيم سوق انتخابية تجارية فيها نفس قوانين السوق من عرض وطلب ومزايدة في السويد أو في اسبانيا أو فرنسا أو انجلترا أو ألمانيا أو النرويج الخ…هذا في حين انه لم يعد ممكنا تصور تنظيم أي استحقاق من أي نوع في البلدان المغاربية دون أن تقام هذه السوق التجارية الحاطة من كرامة الطرفين معا: الناخب والمنتخب فضلا عن تعبيرها الصارخ بلا- وطنيتها وبالتتالي بلا- إنسانيتها. ففي هذا الفضاء المغاربي سلم الجميع بمعطى الفساد كثابت بنيوي سافر…الى درجة أن السلطة في القمة بالمغرب مثلا، اعترفت به ونبهت المواطنين الى أنهم يتحملون المسؤولية باعتبارهم يملكون ((سلطة القرار في اختيار من يمثلونهم)) منبهة اياهم الى أنهم ((لن يكون من حقهم (…) أن يشتكوا من سوء التدبير)).
في المغرب، يعجز كل قارئ للصحف عن تتبع الكم الهائل من أخبار الفساد،أبطاله برلمانيون ومنتخبون من كل صنف واداريون من كل المراتب. وفي الجزاءر أطلق متظاهرو الحراك مصطلحا مخزيا يصفون به حكام جمهوريتهم، وفي تونس ، من كثرة الفساد، ”تظاهر” رءيس الجمهورية وحل البرلمان متهما الجميع باللصوص، كي ينتهي الأمر بالتظاهر في الشارع بهدف اقالته هو نفسه.
ولأن الفساد أضحى في هذه البلدان بنيويا كما أشرنا، فان كبار مسئولين اعترفوا بانهزامهم أمامه. بل لقد أصبح يخلق لنفسه نوع ”شرعية” يثبت بها نفسه، ومن ذلك خلقه مصطلحات ومفاهيم تبرره وتسوغ سبله. أي ان الفاسدين وضحاياه معا خلقوا له إيديولوجيا خاصة به، يمكن للفكر أن يفحصها عرضا وتحليلا …وقد قام بذلك في محاضرة له مفكر كبير من مفكري بلد مغاربي: الفقيد المهدي المنجرة.
وهكذا يمكن القول بأن أفلاطون الفيلسوف، بكل تأثير فلسفته، ليس مغربيا ولا هو موريتاني ولا هو جزاءري ولا هو تونسي ولا هو ليبي. نعم، ان أفلاطون بدعوته الثرية الى الفضيلة ودعوته الفلسفية الصادحة لنبذ الفساد ليس مغاربيا وا أسفاه…فقد طبع المغاربيون مع الفساد بشكل ومضمون جعلا تطبيعهم معه آفة مجتمعية كبرى.
كيف يمكن القضاء على هذه الآفة ليس أنى كان، فقط في العوالم المغاربية تحديدا؟
انه سؤال مطروح النظر فيه من طرف النخبة المغاربية المستقيلة.
المستقيلة كتبنا؟
نعم، لقد قرأتم جيدا. النخبة المغاربية استقالت بسبب من تغول الفساد بالذات..
الكاتب : مصطفى خلال - بتاريخ : 28/09/2021