إيطوبيا

فريدة بوفتاس
أن تحاول الرسم بتلقائية وأنت طفل صغير، تكون بهذا الفعل “الإبداعي ” بصدد إعادة تشكيل وجودك البسيط على هيآت متعددة، ونسج بدايات مدارج وعيك بذاتك، حينها تتحول ريشتك إلى مجداف لخيالك الواسع وهو يقطع مسافات على ورق مقوى أو ما شابهه، طريق تسلكه وأنت موقن أنك أجدت خلق الأثر عليه.
بينما وأنت في سن الرشد، قد يحدث أن تنتابك مرة أخرى هذه الرغبة في التجديف إبداعيا، وتستولي على مجامعك، بحيث لا تقوى على لجمها والحد من إلحاحها عليك، لكن، في هذه اللحظات الملهمة، ستكون ريشتك ( مجدافك ) غير طيعة، ولا منسابة بتلقائية فياضة، بل تجدها تراوح مكانها في تردد لن يخرجها منه إلا الحسم في خوض تجربة إعادة التشكيل، وفي هذه المرة لن تكون ذاتك كأرضية اشتغال هي التي تحظى بالأولوية، بل إنه العالم الذي تظل أنت جزءا منه، فكيف للجزء ان يعيد تشكيل الكل ؟
هل نحن، مرة أخرى، أمام نقيضة على شاكلة سابقاتها (نقائض نظرية المجموعات في حقل الرياضيات ؟
أم أننا أمام طموح وجودي مشروع، ما يفتأ يلقي بنا في تجربة تتعالى عن أن تكون مجرد نزوة إبداعية لتتحول إلى لحظة مخاض من أجل إعادة بناء الذات الكونية عبر خريطة العالم ؟
ستكون ملزما باستحضار التاريخ بالرغم من ضبابيته، وحتى الجغرافيا بتضاريسها الوعرة بعد كل زحزحة ، وعلم الاقتصاد وأفانين نظرياته التي اخترت أن تدعمك إحداها في رحلتك التصحيحية هاته ، وعلم السياسة بتلاوين خطاباته وفخاخه ….وعلم الأخلاق كمعقل لإنسانيتك التي لا ينبغي ولا يصح أن تفارقك .
بعد أن تضع قطعة قماش، وبعد تهييئ كل ما يلزمك لغرض الرسم، من أدوات، ألوان …. لتدشن فوقها عهودا جديدة، ومواثيق أصدق وأوثق، وتعيد لكل ذي حق حقه، من مضطهدين، مهجرين، مستعمرين، نازحين، ولكل الذين واللواتي كانت الإبادة من قدرهم المخطط له تعسفا وعدوانا، من طرف كل من مارس تسلطه وجبروته ونزوعاته التوسعية، لأنه رغب في امتلاك الخيرات
الأرضية، بتعدد أصنافها وقيمتها، مخلفا ضحايا الآلة الغازية أو الاستعمارية أو الحمائية … ولم يكونوا ليسلموا من هذه الوضعيات اللاإنسانية، في غياب عدالة كونية حقيقية تمنع عنهم عبر تاريخ البشرية أسوأ مصير .
أطماع غيرت جلدها في كل مرة، وارتكبت باسم من في الأرض ومن في السماء، باسم القانون والمواثيق… وبكل ما يمكن أن يسمح بإغراق التاريخ بضحايا الحروب والمجازر والإبادات.
وها هي الريشة كلما حاولت أن تعيد للخريطة الأصلية الأم رونقها، قبل أن يعبث بها العابثون، تتعثر في إحداث ذلك، ولا تنجح في أن تعيد رسم حدود ألغيت ومعها اختفت دول، أجناس، أعراق وطوائف …
لم تنجح ولو على قطعة قماش تنتظر أن تأخذ قيمة ومعنى ودلالة تليق بالإنسان، كذات مفكرة حرة الإرادة، ولها حق في وجود كريم في استرجاع حق الهنود الحمر الذين أبادهم الإنسان الأبيض، ولا استرجعت لهم أراضيهم المغتصبة تحت راية اكتشافات، سيكون العلم براء منها، مادامت تخدم الهيمنة والتوسع الأوروبي سابقا.
لم تفلح في إنصاف الشعب الفلسطيني المهجر ( نكبة 1948)، النكسة 1967، التهجير والإبادة الحالية التي يعرفها أهل غزة، والتي لا تزال لم تضع أوزارها، ولا أن توقف العنف النازي تجاه كل ضحاياه 1939\1945، ولا إيقاف تهجير الأرمن ومجازرهم الجماعية 1915من طرف الدولة العثمانية، والأفارقة السود ومراكبهم المطلية بالدم العابرة للمحيط الأطلسي وبيعهم /ن كعبيد .
والأكراد وتهجيرهم إلى أكثر من دولة ( تركيا ، العراق، سوريا، إيران ).
الروهينغا وتهجيرهم /ن الجماعي ( جنوب شرق آسيا )، في تطهير عرقي لا حدود له.
إلى جانب التطهير العرقي الذي شهدته منطقة البلقان
البوسنة، الهرسك، كرواتيا، الصرب
وجميعنا يتذكر محنة البوسنة (1990\1999. ( تفكك يوغوسلافيا ).
شعوب القوقاز وتهجيرهم الجماعي
الاويغور …اللائحة تظل مفتوحة…وقطعة القماش لا تزال في انتظار أن تتحول إلى تحفة فنية تاريخية، تشهد على عظمة الأفراد حين يؤكدون نضجهم السياسي، وقبله الإنساني الذي سيكون دافعهم الأول والأخير في تصحيح كل مزالق التاريخ، وتوثيق لحظات جديدة، مجيدة، تذكر الجميع أن على هذه الأرض، كان وسيظل الإنسان الذي يستحق الأفضل والأجمل، بعيدا عن كل أشكال العنف المفضي إلى الإفناء وإلغاء الحق في الوجود .
الكاتب : فريدة بوفتاس - بتاريخ : 11/09/2025