البيصارة والدبلوماسية.. والفساد

محمد الطالبي

بصراحة، هذا الشعب عظيم، وعظمته ليست فقط في صبره على القهر، بل في حبه العميق لوطنه رغم كل الجراح.
هو شعب عاش الصعاب وواجه الأزمات، ومع ذلك لم يتخلّ يوما عن إيمانه بهذا البلد، ولا عن حلمه بوطنٍ كريمٍ يحتضنه.
شعبٌ يصبر بصمت نبيل، يزرع الأمل في أرضٍ عطشى، ويبتسم رغم الألم، يؤمن أن المغرب يستحق الأفضل، وأن الغد مهما تأخر فإنه قادم.
ومع ذلك، حين يبلغ الصبر حدوده، تجد أبناء هذا الوطن يغامرون بأرواحهم، يواجهون البحر والموت بصدورٍ عارية، لا هروبًا من الوطن، بل هروبًا من الممارسات التي أهانت كرامتهم.
يخاطرون بالحياة لأنهم لم يجدوا عدلًا يُنصفهم، ولا مسؤولين يُصغون إليهم، ومع ذلك تراهم حين يرفعون رؤوسهم للسماء، يهمسون بحنينٍ صادق:
«المغرب زوين، غير فيه بعض اللي كيسيروا خايبين .»
إنها صورة قاسية تختصر ملحمة الصبر والعشق لهذا الوطن، وطن أعطى الكثير، لكن بعض من وُكل إليهم أمره لم يحسنوا رعاية الأمانة.
فما بين حبٍّ لا يموت وصبرٍ لا ينفد، يقف هذا الشعب شامخًا، كي يقول للعالم: حنا ما كنكرهوش بلادنا، غير بغيناها تكون ديال الناس اللي كيبغوها بصح.
هربا من الكومبارس الذين ملأوا المشهد العام، ومن المتشبهين بالقيم وهم في حقيقتهم بعيدون عنها كل البعد؛ هربًا من أولئك الذين جعلوا من الوطنية شعارًا، ومن الدين غطاءً، ومن الإدارة سلطة للاغتناء.
فهم ليسوا مناضلين ولا غيورين على الوطن، بل جشعون ناهبون للثروة والمال، سواء باسم الدين أو الوطنية أو النفوذ الإداري.
تراهم يرفعون الشعارات صباحا، ويتقاسمون الغنائم مساءً، يضعون يدًا على قلوبهم حين يُذكر الوطن، وأخرى في جيوبهم حين تُفتح الصفقات.
إنهم وجوه متعددة لعملة واحدة: عملة الفساد، والرياء، وادعاء الطهر.
وفي المقابل، نرى ما أصبح يعرف بـ واقعة «مول البيصارة» داخل قبة البرلمان، حين تجرأ نائب برلماني من أغلبية الأغلبية على إطلاق كلام عبثي وساخر في قضية الصحراء المغربية، في سلوك لا يليق لا بالمؤسسة التشريعية ولا برمزية الموقف الوطني.
قضية الصحراء التي هي قضية وطنية مقدسة، عمرها أكثر من نصف قرن من الكفاح، والتضحيات، والدم، والمال، والعطاء، تُختزل اليوم في عبارات تافهة وكأنها مادة للتسلية أو البوز الإعلامي.
بينما الملك محمد السادس، وهو الضامن لوحدة التراب الوطني، والراعــي الرسمي للسياسة الخارجية، يجوب العالم من أقصاه إلى أقصاه، يلتقي القادة، ويفتح الأبواب، ويقود معركة الاعتراف بمغربية الصحراء برؤية ثابتة وإصرارٍ لا يلين.
ومعه جحافل من الدبلوماسيين والبرلمانيين، والأحزاب، والنقابات، والإعلام الوطني، كلهم اشتغلوا ليل نهار من أجل تثبيت الموقف المغربي، وصون صورة الوطن في الخارج.
ثم يأتي «مول البيصارة» ليتبختر ويختزل كل هذا الجهد الوطني، وكأن خمسين سنة من العمل والتضحيات لا تساوي عنده حتى جناح بعوضة.
أليس هذا تبخيسًا فجًّا؟ أليس هذا مسًّا بكرامة الوطن ومؤسساته؟
لقد بلغ السيل الزبى، ووجب أن نُدرك أن من أوصلهم المال الحرام والتزوير والتدليس إلى مواقع القرار، هم أنفسهم الذين يهددون اليوم روح الدولة ويُفرغون المؤسسات من هيبتها.
لقد قال القضاء كلمته في بعض القضايا، وأثبت أن أموالًا كثيرة كانت قادمة من تجارة الممنوعات، ومن السطو على خيرات البلاد، من الفلاحة إلى الثروات البحرية.
وحين يجلس هؤلاء بكل طمأنينة فوق كراسي المسؤولية، بل وحتى في الحكومة، فهنا نفهم تماما معنى ما قاله وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت حين نطق بكلمتي «بزز» و»خزيت».
بزز لأنهم وصلوا بزز، وخزيت لأن الفساد أصبح هو من يحكم، والشرفاء هم من يُحاربون.
أجيال من المغاربة هرمت وهي تحلم ببلد نظيف، لكن الواقع اليوم أن الفساد هو الذي يحارب النمو، والإصلاح، وكل بصيص أمل في التغيير.
هذا الشعب يستحق الحياة الكريمة، لا أن يُغامر بنفسه في البحر أو تحت الشاحنات. فالمشكل لم يكن يوما في الوطن، بل في من خربوا الوطن.
ونحن نستعد للسنة المقبلة، التي ستكون سنة رمزية في مسار الوحدة الترابية، بفضل مجهودات ملك أفنى أزيد من ربع قرن في الدفاع عن القضية الوطنية، نأمل صادقين أن تكون صناديق الاقتراع قادرة على فرز الأصلح لا الفاسد، وأن لا نبقى في كل مرة نعيش نفس الخيبة، ونفس الندم بعد كل انتخابات.
إنني أخشى أن يكون ما جرى ليس صدفة، بل جزءا من تيار التبخيس الذي يتسلل بخبث إلى المؤسسات، يُحاول أن يخلق البلبلة بصوتٍ مبحوح، بحال ديك الدجاجة المذبوحة اللي ما عرفاتش تموت بكرامة، في حين أن الوطن يحتاج إلى الصدق والجرأة والمسؤولية.
قضيتنا الوطنية مقدسة، أكبر من التبخيس، وأسمى من المزايدة، وأطهر من أن يطالها من باعوا ضمائرهم للعبة الكراسي والمصالح.
لقد آن الأوان لنقولها بصوت واحد: الصحراء خط أحمر، والوطن ما يتباعش.

الكاتب : محمد الطالبي - بتاريخ : 10/11/2025