الحريات الفردية في مغرب اليوم

فاطنة سرحان

 

الاهتمام الكبير بالحريات الفردية اليوم يمكن إرجاعه لعاملين مهمين وهما الوعي بأهمية إيجاد ضمانات كافية لهامش الحريات التي تمكن الفرد من العيش في أمان وبكرامة من جهة، ومن جهة أخرى، الكم المهول من الحالات التي أصبح المجتمع يتدخل فيها حالات جعلت الكثيرين يشعرون بعدم الاستقرار لدرجة الإحساس بوجودهم في سراح مؤقت.
والسؤال المقلق لكثير من المغاربة وهو أي هامش من الحريات الفردية يضمنها القانون وتحميها الدولة بجميع مؤسساتها لتكون تصرفات الناس في إطار ممارساتهم للحريات الفردية في منأى عن تدخل المجتمع، لأنها تخص الفرد وليس الجماعة.
هدا السؤال الأخير يدفعنا للتساؤل عن الفرق بين الحقوق والحريات الفردية، وما هي نقط التلاقي ونقط الاختلاف ؟
فالحق مقيد وهو كل مصلحة ثابتة لشخص أو مجموعة أشخاص يحميها القانون بنص،
أما الحرية فهي مطلقة لأنها صلاحية الفرد في أن يفعل كلّ ما لا يضرُّ بالآخرين.
وهذا يدفعنا للقول بأن القانون يجب أن يحمي الحريات الفردية لا أن يقيدها، وهو التوجه الذي أخذ به الدستور المغربي والذي لا يسايره القانون الجنائي الذي جاء مقيدا للحريات الفردية في كثير من نصوصه التي أصبحت مثيرة للجدل بين مطالبين بإلغائها حفاظا على حرية الأفراد ومتشبثين بها حفاظا على منظور معين للنظام العام يجعل من الدين أساسا ومرجعية له، في حين أن هذه النصوص المقيدة للحريات الفردية لا تمت للإسلام بصلة لأنها نصوص وضعية والعقوبات التي تقرها لا نجد لها أثرا في الشريعة الاسلامية. والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لما خصص الدورة الثانية من المنتديات الاشتراكية لموضوع مهم في حياة المغاربة إنما يريد أن يضع الدولة والحكومة والمجتمع أمام مسؤولياتهم حتى لا يستعمل القانون لكبح الحريات الفردية بدل توسيع مجالها إعمالا للمبادئ الدستورية.
الضمانات القانونية للحريات الفردية
يعتبر الدستور القانون الأسمى الذي يجب مراعاة مبادئه في النصوص المؤطرة للعلاقات الاجتماعية، وقد نص على احترام الحريات الفردية في تصديره حيث جاء فيه أنه « يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة»، كما أن الدستور المغربي جعل الاتفاقيات الدولية تسمو فور نشرها، «على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة»
أما الفصل 6 من الدستور فقد جاء فيه أن السلطات العمومية تعمل « على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم»
وجاء في الفصل 21 أنه «لكل فرد الحق في سلامة شخصه وأقربائه، وحماية ممتلكاته. تضمن السلطات العمومية سلامة السكان، وسلامة التراب الوطني، في إطار احترام الحريات والحقوق الأساسية المكفولة للجميع»
أما الفصل 24 فهو يضمن «لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة»
وينص الفصل 25 على أن «حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها»
ويقر الفصل 41 على أن «الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية» وذلك إعمالا للفصل 3 الذي جاء فيه أن الدولة «تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية»
هذه الضمانات الدستورية للحريات الفردية تتماشى وما جاء في الاتفاقيات الدولية التي صدق عليها المغرب دون تحفظ ، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1949 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان يضمن هذه الحريات في نصوصه 3، 12،18 و19
أما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية فينص عليها في فصوله 18 و19
بعض الفصول المثيرة للجدل :
قبل التطرق لهذه النصوص يجب الإشارة إلى أن القانون الجنائي المغربي يرجع لسنة 1962 وأنه استنبط جل أحكامه من القانون الجنائي الفرنسي لتلك الفترة. وأن بعض هذه النصوص أصبحت متجاوزة بعد صدور دستور 2011 الذي أفرد بابا للحريات والحقوق الأساسية ومن ضمنها حماية الحياة الخاصة.
الفصول 490، 491 و492 المتعلقة بالعلاقات الرضائية والخيانة الزوجية والمشاركة فيها.علاقة خارج إطار الزواج
الفصول 449 الى 458 التي تجرم الإجهاض
بالنسبة للعلاقات الرضائية، التي تعتبر فسادا في القانون الجنائي المغربي، فالمطالبة بإلغاء النصوص التي تجرمها لا يعني تشجيع الإباحية، بل هي معتمدة على واقع لابد من أخذه بعين الاعتبار وهو أن الوضع الذي كان سائدا سنة 1960 الذي ربما كان يتماشى مع عادات الناس في الزواج قد تغير اليوم. حيث كان المغاربة يتزوجون في سن مبكرة، وذلك مباشرة بعد البلوغ، إذ كان سن أول زواج بالنسبة للمرأة هو 17 سنة والرجال يتزوجون في سن 24 سنة، أما اليوم وذلك حسب إحصائيات لسنة 2010 فقد أصبح سن أول زواج بالنسبة للمرأة هو 26،6 والرجال لا يتزوجون إلا بعد سن 31،4. في ظل هذا الوضع أصدرت المحاكم المغربية سنة 2018 ما مجموعه 14503 حكما بسبب الفساد، و3048 حكما بسبب الخيانة الزوجية، إذن بالرغم من تجريم العلاقات خارج إطار الزواج يلجأ لها المغاربة، أليس هذا دليلا عن عدم نجاعة هذه العقوبات وهذا المنع ؟

إضافة لذلك هناك تناقض بين النصوص وبين ما يدفع به البعض كهدف للإبقاء على تجريم العلاقات الرضائية، إذ في ظل تأخر سن الزواج يسمح القانون لمرتكب الخيانة الزوجية بالإفلات من العقوبة إذا تنازل عن الدعوى الزوج الآخر ويعاقب الطرف الأعزب الذي قد تعتبر هذه الممارسة هي الوسيلة الوحيدة لإشباع حاجته الطبيعية. هذا التناقض بين المادة 490 والفقرة الثالثة من المادة 492 يفتح باب التحايل على القانون للسماح للطرف المتزوج للتهرب من المسؤولية التي قد تنتج عن هذه العلاقة كالتغرير بامرأة يخطبها وعندما ينتج حمل عن هذه العلاقة ترفع عليه زوجته قضية خيانة زوجية وتتنازل عنها مباشرة، وتتابع المخطوبة بالخيانة الزوجية، وهذا المثل ليس من نسج الخيال بل هو قضية معروضة اليوم أمام المحاكم المغربية. فهل من المعقول الإبقاء على نصوص يؤدي تطبيقها إلي الزج بالأبرياء في السجون والسماح للمذنبين بالإفلات من المحاسبة وتحمل مسؤولياتهم؟
إضافة لما سبق فنص المادة 490 يفتح باب الاعتداء على حميمية الناس لأنه يمنح للسلطات العمومية، اعتمادا على وشاية أو رسالة مجهولة، سلطة كبيرة يمكن أن تؤدي لممارسات تعسفية. وهذا قد يحدث في خرق سافر لمبادئ الشريعة الاسلامية التي يعتمد عليها دعاة الإبقاء على النص، حيث يتم الاعتداء على حرمات الناس وقذفهم بالباطل والمس بخصوصياتهم. هذا مع العلم أن من الداعين للإبقاء على النص من خرقوا هذا التحريم جهارا وخرجوا فيما بعد يدعون حقهم في ممارسة حرياتهم الفردية.
هذا الانفصام الفكري والعقائدي، ما هو حرام على غيري حلال لي، أدى ببعض القائمين على الشأن التشريعي إلى غض الطرف عن المآسي التي يعيشها المغاربة الذين يقعون في المحظور، فيجدون أنفسهم بين قانون يضيق الحريات الفردية وغياب سياسة اجتماعية تأخذ بعين الاعتبار تبعات السياسة الجنائية المبنية على العقاب بدل الحماية.
من هنا نتطرق لمجموعة أخرى من النصوص، وهي المواد 449 إلى 458 التي تجرم الإجهاض.
المشرع لما تطرق للإجهاض وأفرد له عقوبات لم يعرفه، وفي العقوبات خلط بين لجوء امرأة للإيقاف الإرادي للحمل والاعتداء على امرأة حامل من طرف الغير مما يؤدي إلى إجهاضها.
والمشرع الذي يعاقب كل من ساعد امرأة على إسقاط حملها لم يراع وضعية المرأة التي تضطر للجوء لهذه العملية في حالة حمل لم ترغب فيه لظروف عائلية أو اجتماعية. كما أنه لم يأخذ بعين الاعتبار الوضع القانوني والاجتماعي للطفل الذي ينتج عن هذا الحمل. لأن المشرع لو أخذ وضعية المرأة والطفل بعين الاعتبار لما وجد في شوارع الدار البيضاء وحدها أكثر من 300 حالة إهمال سنويا بين جنين وطفل حي تنهشه الكلاب في المزابل. كما أنه ما بين سنتي 2003 و2009 تم إحصاء 50000 طفل ازدادوا خارج إطار الزواج
إذن من الرابح والخاسر من تجريم التوقيف الإرادي للحمل أو الإجهاض. فالمشرع لما تطرق للإجهاض وضعه ضمن باب الجنايات والجنح ضد نظام الأسرة والأخلاق العامة. ومن هذا المنظور يتشبث المعارضون لرفع التجريم، فهم يعتمدون على ضرورة احترام مرجعية الدولة والمجتمع وثوابتهما والنظام العام. أما المطالبون برفع التجريم فهم يعتبرون أن القانون الجنائي برمته لا مرجعية اسلامية له لأنه مستمد من القانون الفرنسي وان العقوبات المقررة لا تمت للإسلام بصلة. هذا من جهة. ومن جهة أخرى عن أي اسرة يتحدث القانون وهل تجريم إيقاف الحمل يخدم مصالحها ؟ وماذا أعدت الدولة من حماية وأقرت من حقوق للأم العازبة وللطفل الذي يقع الحمل به خارج إطار الزواج ؟

بالنسبة لحماية نظام الأسرة
عن أية أسرة يتحدث المشرع ؟ فإذا كان الأمر يتعلق بعائلة المرأة، أليس نظامها العام يقتضي اللجوء لوقف الحمل حتى تبقى أسرارها داخل البيت الأسري وبين أعضائه، عوض الإشهار بحمل غير مرغوب فيه ناتج عن علاقة غير قانونية قد يجلب عليها العار والفضيحة في مجتمع محافظ. أم ان المشرع يقصد أسرة الأم العازبة ومولودها ؟ فهذه الخلية الأسرية لا يمكن أن نلزم المرأة بتكوينها وهي غير قادرة على تحمل تبعاتها الاقتصادية والنفسية ولا الاجتماعية. لأنه نظرا لجسامة المهمة التي تنتظرها مع احتمال أن يفسد هذا الحمل حياتها، هناك من النساء وخاصة القاصرات من لن تتردد في اللجوء للإيقاف السري للحمل معرضة حياتها للخطر، أو الإقدام على الانتحار كحل أقصى لمشكلتها.

بالنسبة لحماية النظام العام
كيف يمكن الحديث عن حماية للنظام العام بتجريم الإيقاف الإرادي للحمل في ظل منظومة قانونية لا تعترف للطفل الذي يقع به الحمل خارج العلاقة الزوجية باية حقوق على الرجل الذي كان سببا في خروجه للوجود وغياب تام لمؤسسات اجتماعية تهتم به وبأمه. طفل يحمل طوال حياته وصمة العار الذي ليس له يد فيه، ينعت بكل الألقاب المشينة ( لقيط، ابن الحرام، ولد الزنا). وصمة عار حاول قانون الحالة المدنية التخفيف من حدتها دون اجتثاثها عندما سمح للأم العازبة عند التصريح بازدياده باختيار اسم أب له. لكن أصوله تتبعه كلما احتاج لشهادة كاملة للميلاد التي لا تحمل اسم الجد من الأب، وهي شهادة ضرورية سواء للزواج أو للالتحاق بالوظيفة العمومية. عن أي نظام عام نتحدث في بلد يترك مواطنيه خارج التغطية القانونية وذلك بالسماح للرجل/الأب بالتملص من مسؤولياته لأنه رجل ويحمل هذه المسؤولية للمرأة لأنها امرأة في ظل دستور جعل من المساواة بين النساء والرجال مبدأ أساسيا.

بالنسبة للمرأة
يجب أن نعلم أن الإيقاف الإرادي للحمل ليس بالآمر الهين ولا هو ترف تلجأ له بعض النساء للحفاظ على رشاقتهن، إنه قرار صعب قد تحمل المرأة أثاره طوال حياتها لأنه يمس كيانها الجسماني والروحي والبسيكولوجي، فبعملية واحدة يمكن أن تقبر كل حظوظها في الإنجاب مرة أخرى. إذن بتقنينه نمنح للنساء اللواتي يكن في حاجة ماسه له الاستفادة من نصائح المختصين في طب التوليد والطب النفسي والمساعدة الاجتماعية لتكون على دراية بعواقبه.
إننا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بفتحنا النقاش حول الحريات الفردية التي لا تقتصر على ما جاء في هذه الورقة، نهدف من طرحه إلى وضع الأصبع على بعض مكامن الخلل في منظومتنا القانونية لأنها تهم الحياة اليومية للمغاربة. فإذا كان من متابعة لهذا النقاش بالنسبة لما جاء في هذه الورقة فيجب أن تنكب على اعتبار العلاقات الرضائية شأنا خاصا ما دامت بين راشدين، أما بالنسبة للإيقاف الإرادي للحمل فالنقاش يجب أن ينصب على تقنينه من حيث مدة الحمل التي يسمح بإجرائه خلالها، والمصحات المختصة، إضافة إلى اعتباره مطلبا صحيا تتكفل بمصاريفه مؤسسات الضمان الاجتماعي، كل هذا خدمة للمرأة وخدمة المرأة هي خدمة للمجتمع.

الكاتب : فاطنة سرحان - بتاريخ : 27/01/2020