الشبيبة الاتحادية طليعة تتجدد بين الإرث النضالي وآفاق المستقبل
محمد السوعلي
في الذكرى الخمسين لتأسيسها، وتحت شعار «فخورون بماضينا وحاضرنا..متطلعون لمستقبلنا..واوفياء لمبادئنا»، تجدد الشبيبة الاتحادية عهدها مع التاريخ والمستقبل معًا — جيلٌ يتسلم المشعل، ويعيد تعريف الطليعة في زمن التحولات الكبرى، بين الوفاء للفكرة الاتحادية وتجديد أدواتها في الفكر والممارسة.
ومن حق الذاكرة الاتحادية، وهي تستعيد مسار نصف قرنٍ من النضال والفكر، أن تطرح على نفسها أسئلة الحاضر والمستقبل:
هل ما تزال الشبيبة الاتحادية طليعةً للفكر والتغيير في مغربٍ يتسارع فيه التحول الرقمي والاجتماعي؟ وكيف استطاعت أن تحافظ على جذوة الوعي التقدّمي في زمنٍ تغلب فيه الفردانية والسطحية على النقاش العمومي؟ وهل يمكن أن تظل مدرسةً في النضال والعمل السياسي في وقتٍ يبحث فيه الشباب عن معنى جديد للمواطنة والالتزام؟
أسئلة مشروعة تستمدّ راهنيتها من تجربةٍ فريدة عمرها نصف قرن، جعلت من الشبيبة الاتحادية أكثر من مجرد تنظيم شبابي، بل مختبرًا للأفكار، ومنبرًا للدبلوماسية الشبابية، وفضاءً للتفاعل السياسي والثقافي والاجتماعي.
فمن قاعات المؤتمرات إلى ساحات الفعل الميداني، ومن المنتديات الثقافية إلى المنصات الرقمية، أثبتت هذه المنظمة العريقة أن الفكرة الاشتراكية المغربية قادرة على التجدد والتأثير.
وعند أفق سنة 2030، سنةٍ رمزيةٍ يتقاطع فيها الموعد الرياضي العالمي مع الرهانات الإصلاحية الوطنية، تضع الشبيبة الاتحادية نفسها في قلب هذا التحول الوطني نحو مغرب العدالة الاجتماعية، والإنصاف الترابي، والمواطنة الواعية — مغربٍ يجمع بين الكفاءة والديمقراطية، والتنمية والكرامة، والطموح الوطني والالتزام الإنساني.
لقد لخّص الكاتب الأول إدريس لشكر هذا الأفق بقوله: «الاشتراكية المغربية لا تستمر إلا إذا تجددت بشبابها». أما القائد التاريخي عبد الرحيم بوعبيد فقد عبّر عن جوهرها بقوله: «النضال هو طريقة في حب الوطن.»
ومن هذين المبدأين وُلدت فلسفة الشبيبة الاتحادية: نضال نابع من الحب، وعقل يوجّه الفعل، وإيمان بأن السياسة التزام ومسؤولية، لا مهنة أو وسيلة لتسلق المراتب والمسؤوليات.
شبيبة تتجدد ولا تتكرر: بين الذاكرة النضالية والمستقبل التقدمي
الشبيبة الاتحادية ليست امتدادًا ميكانيكيًا لحزبها، بل وعيه الحيّ وضميره المتقد. فهي تستمد مشروعيتها من تاريخها، لكنها لا تعيش أسيرته، لأنها تدرك أن الوفاء للماضي لا يعني تكراره، بل تطويره وتجديد رسالته في الحاضر.
ففي الدبلوماسية، أثبتت حضورها في المحافل الإقليمية والدولية دفاعًا عن الصحراء المغربية، ومرافعةً عن القضية الفلسطينية كقضية أخلاقية وإنسانية.
وفي الثقافة، جعلت من الفضاء العمومي منبرًا للتنوير والنقاش بدل التفاهة والسطحية، معتبرةً أن المعركة الفكرية هي معركة المستقبل.
أما في الرقمنة، فقد استثمرت الفضاء الإلكتروني لصياغة خطابٍ تقدّمي يواجه التطرف والخرافة، ويعيد الاعتبار للعقل والنقاش الهادئ.
وفي الميدان، كانت دائمًا في الصفوف الأولى، تؤطر وتبادر حيث يغيب حضور الدولة: في القرى، والأحياء الشعبية، والمناطق المنكوبة، لتؤكد أن النضال فعل مسؤولية قبل أن يكون شعارًا.
طليعة وطنية وإنسانية: مدرسة في حب الوطن وخدمة الإنسان
تجمع الشبيبة الاتحادية بين الانتماء للوطن والالتزام بالإنسانية، إدراكًا منها أن النضال الوطني الحقيقي لا ينفصل عن القيم الكونية للحرية والعدالة. فهي ترى أن الدفاع عن الصحراء المغربية والدفاع عن فلسطين ليسا قضيتين منفصلتين، بل وجهان لوفاء واحد: الوفاء لقيم التحرر والسيادة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
إنها شبيبة تؤمن أن الوطنية لا تكتمل إلا حين تتسع رؤيتها للإنسان، وأن من يدافع عن تراب بلده يجب أن يدافع أيضًا عن كرامة الإنسان أينما كان. فمبادئ العدالة لا تُجزّأ، والحرية التي ننادي بها لأنفسنا تفقد معناها إن لم نؤمن بها للآخرين. ومن هذا المنطلق، جعلت الشبيبة الاتحادية من القضية الفلسطينية مرآةً أخلاقية لاختبار صدقية الالتزام الوطني، معتبرةً أن الدفاع عن فلسطين هو دفاعٌ عن القيم نفسها التي تحمي وحدة المغرب وسيادته.
إنها تقرأ في كل نضالٍ عادل امتدادًا لمعركة الشعوب من أجل الكرامة، وترى في كل صمتٍ عن الظلم تواطؤًا ضد المستقبل الإنساني. وبهذا الوعي المزدوج، الوطني والإنساني، تؤكد الشبيبة الاتحادية أن المشروع الاتحادي ليس فقط مشروع دولة عادلة، بل مشروع إنسانٍ حرّ. فهي تؤمن أن الهوية المغربية، في عمقها الحضاري، قائمة على التوازن بين الانتماء الوطني والانفتاح الإنساني، بين الخصوصية والكونية، وبين الدفاع عن الذات والمشاركة في بناء عالم أكثر عدلاً وإنصافًا.
وهكذا، تُجسّد الشبيبة الاتحادية في ممارستها اليومية روح الاشتراكية المغربية التي لا تفصل بين الوطن والإنسان، ولا ترى في النضال مجرد دفاعٍ عن حدودٍ جغرافية، بل عن قيمٍ كونية تؤمن بأن المغرب، حين يدافع عن عدالة قضاياه، يشارك أيضًا في بناء عالمٍ أكثر إنصافًا وحريةً وكرامةً للبشر جميعًا.
طليعة وطنية وإنسانية: من النضال الاتحادي إلى الوعي الكوني
تدرك الشبيبة الاتحادية أن معركة القرن الحادي والعشرين هي معركة فكرٍ ومعنى، وليست مجرد صراعٍ على السلطة. ومن خلال منتدياتها ومقاهيها الفكرية، تخوض مواجهةً يومية ضد الرداءة والتبسيط المفرط.
في مرحلةٍ تتراجع فيها القيم السياسية الجادة أمام هيمنة الخطاب السريع والانفعالي، اختارت الشبيبة الاتحادية أن تظل صوت العقل والمسؤولية، وأن تميز نفسها بخطابٍ مؤسس على التحليل والمعرفة لا على الشعارات والمزايدات. فهي تعتبر أن النضال الواعي هو وحده القادر على حماية الوطن من التبسيط والاختزال، وأن التربية السياسية والتأطير الجاد هما المدخل الحقيقي لبناء مواطنٍ حرّ ومجتمعٍ ديمقراطي متوازن. ومن هذا المنطلق، ترفع الشبيبة الاتحادية شعار التفكير الجماعي، والصرامة الفكرية، والإبداع في خدمة الوعي الوطني، مؤكدةً أن الفعل السياسي، حين يستند إلى الفكرة والالتزام، يصبح أداةً لبناء الدولة الاجتماعية وترسيخ قيم العدالة والمواطنة.
من مدرسة النضال إلى مشروع الدولة الاجتماعية
دفعت الشبيبة الاتحادية ثمنًا باهظًا في سبيل الديمقراطية والكرامة، من اعتقالاتٍ وتضييقٍ وإقصاء، لكنها حولت الجراح إلى دروس، والمحن إلى طاقة فكرية ونضالية جعلتها جزءًا من الضمير الوطني المغربي.
واليوم، وهي تواكب التحول الذي يعرفه المغرب نحو الدولة الاجتماعية كما دعا إليه جلالة الملك محمد السادس، تؤكد الشبيبة الاتحادية التزامها بأن تكون قوة اقتراح لا مجرد قوة احتجاج، وأن تترجم الرؤية الملكية إلى سياساتٍ عادلة تُعيد الثقة بين الدولة والمجتمع وتمنح الشباب دورًا في البناء لا في الانتظار.
خلاصة: طليعة الحاضر ووعد المستقبل
تظلّ الشبيبة الاتحادية قوة هادئة ويقِظة، تفكر وتعمل وتبني مغرب الغد، وفي الوقت نفسه تُعِدّ الخلف الذي يواصل المسار النضالي بنفس الإيمان والصلابة. فالنضال الاتحادي ليس محطةً في الزمن، بل دورة متواصلة من العطاء والوفاء، تتسلم فيها الأجيال المشعل لضمان استمرارية المشروع الاشتراكي ومواكبة تحولات المغرب وتطوره.
إنها شبيبة سياسية مسؤولة، تؤمن بأن الوطنية التزام لا شعار، فتدافع عن وحدة التراب الوطني، وتناصر عدالة القضية الفلسطينية، وتناهض السياسات النيوليبرالية التي تُقصي الإنسان وتضعف قيم التضامن. وبهذا الوعي الجمعي، ترفع راية الكرامة والمساواة والمشاركة، وتجسد مشروعًا وطنيًا مستمرًّا يربط بين الوفاء للماضي والإبداع في الحاضر والطموح للمستقبل. إنها مدرسة في الوطنية الحديثة، وجسر بين الأجيال، ودليل على أن الاشتراكية المغربية ليست فكرة عابرة، بل رؤية حيّة تتجدد في الفكر والممارسة كل يوم.
وفي زمنٍ تتغير فيه الوسائل وتبقى القيم، ترفع الشبيبة الاتحادية نداءً هادئًا، لا بالصوت العالي بل بالمعنى العميق: أن يتم تغليب تعميق وعي المواطنين بالقضايا التي تعنيهم أكثر من تكرار الخطابات الجوفاء، وأن تعطى الأولوية لبناء منظومات فكرية تساهم في صياغة مشروع مجتمع عادل تصان فيه كرامة الناس بدل الإسراف في ترديد الشعارات، وأن يستأثر الإحساس بالمسؤولية باهتمام من يتولون مهام تدبير الشأن العام أكثر من بريق المنصب. فالاتحاد ليس ذكرى تُروى، بل مسار يُفكَّر فيه ويُبنى باستمرار، والمستقبل لا يُنتظر، بل يصنع بالمعرفة والإيمان بالإنسان.
إن من يحمل فكر الاتحاد لا يكتفي باستحضار تاريخه، بل يسعى إلى إحياء روحه في واقعٍ يتبدّل كل يوم، ومن ينتمي إلى الشبيبة الاتحادية لا يعيش على أمجاد الماضي، بل يصنع وعي الغد، بهدوء الحكماء وإصرار الحالمين.
الكاتب : محمد السوعلي - بتاريخ : 20/11/2025