الصين التي في خاطري 9 .. عندما نهض «ماو « من قبره ليصفق للصين الجديدة
بديعة الراضي
في غرفتي بفندق «يونغ هو» بمدينة قويلين، عادت بي الذاكرة ذلك المساء، وأنا أفتش في الدلالات الثقافية والحضارية للعدد الهائل من المجسمات التي غطت المتحف القومي لمنطقة قوانغشي الذاتية الحكم، إلى عوالم مختلفة ومتنوعة، توقفت عند البعض منها، خاصة المجسمات التي مازالت تلقي بظلالها على تراب قويلين التي امتنع أهلها عن تطوير أي صناعة تضر بيئتها، حماية لطبيعة جمالها وتطويرا لبعدها الثقافي، الذي أصبح في ما بعد ركيزة أساسية للسياحة في المنطقة.
ولا أخفيكم قرائي سرا، أني فتشت كذلك داخل دفتري عن سياسة الحزب الشيوعي الصيني في المجال الثقافي، وبدأت شطحات تفكيري تحيلني على الاقتناع، بأن هناك قانونا صارما يلزم بفعل ثقافي ما، ضمن استراتيجية ينتجها الخبراء في اللجن بفضاءات الجامعة، في مختلف التخصصات، والتي تنتج المخططات باعتمادها على “البنك العلمي والمعرفي، والذي يخضع بدوره لعمل ممنهج وهادف”، وهي المخططات التي يعرضها هؤلاء الخبراء عبر وسائل الإعلام على المواطنين للتداول فيها، حسب ما أخبرنا به أحد المحاضرين الصينيين في ورش حول “التنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية في منطقة قوانغشي الذاتية الحكم”.
غير أنك لا تحتاج بالفعل إلى مجهود فكري كبير وأنت تبحث في العمق الثقافي لمنطقة قويلين، لأن هذا البعد هو مجال بكافة تجلياته، ينتصب فيه الإنسان الصيني كسيد للموقف، في عمقه ثورة ثقافية، خاضها بإيمان وبصرامة كذلك، وجسدها في الواقع، ناحتا بأظافره في الصخر، فأظهر بالفعل أنه كان “جريئا على الكفاح وعلى انتزاع النصر” بأساليب ينهض ماو تسي تونغ من قبره، في كل محطة تاريخية، بعد رحيله، ليصفق على نتائجها.
وبالفعل تقتنع أن “أحمر الشرق” سطر كل شيء في غرس روح مستثمرة للذاكرة في كافة الأجناس التعبيرية، في الأدب، والموسيقى، والشعر، والرقص، و المسرح بكافة أدواته، في الإضاءة و الصوت وتعبير الأجساد، بدلالات فوق ركح على الماء.
تلك هي الصورة التي احتوتنا، ونحن ندخل إلى جنة النهرين والبحيرات الأربع. جنة، قال عنها فقيهنا في الوفد المغربي المكون من الكوادر الحزبية، إنها صورة طبق الأصل لتلك التي جاءت في النص القرآني، وبدأ الفقيه يردد آية:» وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»، « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ « .
قالت عضو من الوفد:» لا تدخلوا الدين في كل شيء»، غضب الفقيه من ذلك، أحس أنه تدخل في قناعته وإيمانه، فقال رئيس الوفد، مازحا- وهو الرئيس الذي أبان بالفعل عن قدرته في تغيير المواضيع من أجل أن يظل الوفد منسجما وموحدا- :»هذه جنتنا الذي دخلناها في الدنيا، والله سيجعلنا جميعا في جنة الآخرة، لأننا اليوم صحبة هذا الفقيه الطيب، ملح هذا الوفد الرائع من المغاربة الأحرار».
وتتيح لك الجنة التي دخلناها وخرجنا منها ليلا، في قارب تفننت أيادي الصينيين وعمق تفكيرهم في صناعة ممرات له بين النهرين و البحيرات الأربع، أن تتمتع بجمال الطبيعة، وأنت على قوارب تصل منها إلى مسامعك الأغاني الشعبية، فتحول نظرك، لترى نساء ورجالا يتجاذبون أطراف الحديث،على ركح وضع على جانب النهر بعناية فائقة، وفي الجانب الآخر تطل فتاة من قومية ياو تعد الشاي وتقدمه للضيوف، وأخريات يسرحن شعرهن الأسود الطويل، وغير بعيد منهن يقام حفل زفاف تقليدي، بحضور أجمل النساء اللواتي يرتدين قماشا من الحرير، بقوام نحيف، ووجه صبوح، في مشهد مسرحي يحترم إنارته ووضع شخوصه ووظيفتهم على الركح. وتتقاذف المشاهد أمام نظرنا في عالم فني ينقل لك ثقافة بكاملها، لمنطقة تعتز بكل هذا البهاء، الذي يجعلك تشارك ساكنة قوانغشي اعتزازهم وتصفق لهم كما يفعل بالضبط ماو تسي تونغ حين ينهض من قبره في كل ذكرى سنوية تتعزز بتقدم الصين وبفرض احترامها على العالم.
لا أدري قرائي كيف تبادرت إلى ذهني تلك «النمور من ورق»، التي تحدث عنها «ماو « في كتابه «الكتاب الأحمر»، بدت كل الصور، التي تتالت أمامنا في الجنة التي دخلناها وخرجنا منها ليلا، نحن الوفد المغربي الذاهب إلى منطقة قوانغشي ذاتية الحكم بالصين الشعبية في مهمة استطلاعية، حلما يهجر حقيقة ليؤكد معناها، فلا النمور أطلت، ولا الأسود، وحدهن الحور العين اللواتي بلغ عددهن أكثر من اثنتين وسبعين ، حضرن، حتى أن الفقيه عندما عدهن قال «الله أكبر» لقد دخلنا الجنة بمواصفات أكثر».
بالفعل كن كاللؤلؤ المكنون، بل وكأنهن الياقوت والمرجان، وخيرات حسان، تلك التي تربت المرأة الصينية عليها لتكون بذلك الخلق والبهاء. فاذهبوا قرائي إلى منطقة قوانغشي لتتأكدوا من قولي، وتدخلوا الجنة في الدنيا، وتصبحون شاهدين على مجال نحتته القدرة الإلهية، وزاده الشعب الذي يحب الحياة، بهاء وجمالا، وأجلوا قرائي الحديث عن الشهيد، ودخوله للجنة من عدمه، فذلك علم لا يعلمه إلا الله، وهو العلي القدير.
الكاتب : بديعة الراضي - بتاريخ : 13/10/2017