العرب وفلسطين: تلاحم أم تفارق؟ 2/2

السفير محمد الاخصاصي

مقدمة:

يجسد احتفاء «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» بـ»يوم الأرض»، إلى جانب الشعب الفلسطيني الشقيق، عمق تفاعل المغاربة مع قضية فلسطين، ومتانة التحامهم بالنضال الدؤوب الذي يخوضه الشعب الفلسطيني، على مدى سبعة عقود (1948-2019)، ضد الاحتلال الإسرائيلي المغتصب لأرضه، ومن أجل استعادة حقوقه المنتهكة
في الحرية والاستقلال والسيادة.
I/ وفي مقدمة هذه المعطيات:
علاقات سلطة حماس بغزة، مع «السلطة الوطنية» بالضفة. وفي هذا الصدد، فإن مواقف وتصرفات وسياسة حماس في غزة وخارجها، تبدو مندرجة منذ الوهلة الأولى، لـ»الانقسام»، في سياق أجندة بناء سلطة مستقلة عن «منظمة التحرير الفلسطينية» وعن «السلطة الوطنية» المنضوية تحت نفوذها في الضفة، وذلك بمختلف أشكال وأبعاد هذا الاستقلال، العضوي والسياسي بل والجيو-سياسي… وقد أفضى هذا التوجه «الانقسامي» في الصف الفلسطيني، سياسياً وترابياً ونضالياً، إلى إضعاف صدقية «منظمة التحرير الفلسطينية» التي شكلت وتشكل إطار وقوام الكفاح الفلسطيني من أجل التحرير والاستقلال، وإلى تهشيش «البرنامج الوطني» الذي صادقت عليه مختلف المؤسسات التمثيلية للشعب الفلسطيني، وفي مقدمها «المجلس الوطني»
وقد صب، ويصب هذا التوجه «الاستقلالي» لحركة حماس، – موضوعياً – في خدمة الأجندة الإسرائيلية القائمة على إجهاض خيار «حل الدولتين»، وفي توظيف حالة «الانقسام» بين غزة والضفة، مؤسساتياً وسياسياً، في محاولة لطمس وحدة الشعب الفلسطيني، أرضاً، وشعباً، وقيادةً…
وغني عن الإشارة، فإن حالة «الانقسام» هذه، قد شجعت مهندسي «صفقة القرن» على صياغة تسوية ماكرة للنزاع العربي-الإسرائيلي، تقوم على الالتفاف على «حل الدولتين»، وعلى فرضية ثنائية مؤسساتية، شعبية للشعب الفلسطيني الواحد الموحد.
أولوية العامل الإيديولوجي الإسلاموي، لدى حماس، على حساب الخيار الوطني التحرري.
ويشكل هذا المعطى الإيديولوجي، المحدد لمواقف وتصرفات حماس، العامل الحاسم في فشل محاولات «المصالحة» التي تعاقبت منذ عام 2005، بين حماس و»منظمة التحرير الفلسطينية» بالرغم من «التوافقات» المعلنة عقب لقاءات «المصالحة» المتعددة. كما يفسر هُزال نتائج دور الوساطة التي اضطلعت به مصر، بموجب تفويض عربي منذ سنوات، وذلك بالرغم من الجهود الحثيثة التي يقوم هذا البلد الشقيق في سبيل إعادة اللحمة للنضال الوطني الفلسطيني.
وغني عن البيان، فإن طغيان الخلفية «الإخوانية» لحركة حماس، في علاقتها بـِ»البرنامج الوطني» لـ»منظمة التحرير الفلسطينية»، وانخراطها الانضباطي في استراتيجية حركة «الإخوان المسلمين»، ضمن الشبكة الإسلاموية لهذه الحركة على الصعيد الإقليمي – قد حديا ويحدوان بها إلى إعطاء الأولوية لمسألة إقامة سلطة إخوانية، فلسطينية في غزة، والانخراط، في سبيل ذلك، في «محور» جيوسياسي، إقليمي لرعاية ودعم هذه «الإمارة» الإسلاموية الناشئة.
وقد تجلى هذا الهاجس الإيديولوجي لدى حماس في تحالفها المعلن مع حكم «الإخوان» في مصر، وفي مشاركتها الميدانية إلى جانب «الإخوان» في الحرب السورية، عبر فصيل «أكناف بيت المقدس» في حي «اليرموك»، جنوب دمشق، وفي إظهار الولاء لقادة «الإخوان» في هيئة مجلس «اتحاد العلماء المسلمين»، وغيرها من المناسبات والمحطات.
وقد شكل هذا «الانقلاب» في سلم الأولويات لدى حماس، منذ 2007 بصفة خاصة، فرصة سانحة لليمين الإسرائيلي، لتعزيز أجندته الالتفافية على «حل الدولتين»، إذ أعلن نتنياهو، مؤخراً أن ترخيصه بتحويل المساعدة المالية القطرية إلى حماس، عبر أجهزة إسرائيل الاستخباراتية، إنما يرمي إلى مفاقمة حالة «الانقسام» الفلسطيني، بين غزة والضفة، وبالتالي إلى تزكية منطق ومقترحات «صفقة القرن» الأمريكية-الإسرائيلية.
اعتماد خيار العنف ومناهج القمع في فرض سياسة وإجراءات حكومة «الإمارة». فقد أبانت إجراءات القمع الموصوف الذي واجهت به سلطة الحماس المظاهرات الشعبية، السلمية التي اندلعت مؤخراً في القطاع، احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية في غزة، تحت شعار «بدنا نعيش»، ومطالبةً بوقف سياسية رفع أسعار المواد الغذائية الأساسية، وإدانة الشطط في السياسة الجبائية بالقطاع – أبانت سياسية القمع والاضطهاد للجماهير المحتجة عن نهج استبدادي يشي بطبيعة سلطة حماس. فقد تم تفريق أكثر من 25 تجمعاً جماهيرياً بالرصاص والهراوات، واعتقال نحو ألف شخص في بضعة أيام، وملاحقة ناشطين في منازلهم، وذلك بمشاركة المئات من أفراد الشرطة العلنية والسرية، والزج بوحدات من ميليشيات حماس العسكرية في قمع وتفريق واعتقال المتظاهرين، وتعبئة خطباء مساجد إسلامويين موالين، لتجريم وشتم المحتجين… ولقد أدانت مختلف الفصائل الفلسطينية، الموالية منها والمعارضة لسلطة حماس، هذه الهجمة القمعية غير المسبوقة في تاريخ العلاقات الفلسطينية-الفلسطينية.
رابعتها، تقاطع الأجندات السياسية الأسرائيلية-الأمريكية المتربصة، اليوم، بالقضية الفلسطينية، يرمي إلى محاصرة «السلطة الوطنية» الفلسطينية في الضفة، للحد من فعالياتها السياسية والتنظيمية والتعبوية، والقضاء على رمزيتها، باعتبارها مؤشراً ذا دلالة على قدرة الشعب الفلسطيني على إرساء دولة وطنية، ديمقراطية ذات سيادة وعاصمتها القدس.
وفي هذا المضمار، فقد تكاثفت جهود اليمين الأمريكي والإسرائيلي معاً، مؤخراً، من أجل إطباق الحصار على الشعب الفلسطيني عبر إغلاق الإدارة الأمريكية لمكتب «منظمة التحرير الفلسطينية» في نيويورك، ومحاولة إغلاق «وكالة غوث اللاجئين» في غزة، وإقدام الحكومة الإسرائيلية على حجز واقتطاع جزء من عائدات الضرائب التي تعود للسلطة الفلسطينية، وغيرها من الإجراءات التعسفية التي ترمي إلى شل حركة النضال والصمود الفلسطينيين.
وقد عبر الأمين العام للأمم المتحدة، في تقريره الأخير، حول الوضع الفلسطيني، عن «القلق البالغ من التطورات المتعلقة بعائدات الضرائب للسلطة الفلسطينية، لاسيما الآثار السياسية والاقتصادية والأمنية على الفلسطينيين، مما يقوض إطار «أسلو» و»حل الدولتين»، مشيراً بذلك إلى الانتهاك الذي يشكله الإجراء الإسرائيلي لـ»بروتوكول باريس» الموقع بين «منظمة التحرير الفلسطينية» وإسرائيل.
بيد أن الصمود الفلسطيني يظل صلباً كالصخر: ذلك ما عبر عنه رياض المالكي، وزير الخارجية والمغتربين الفلسطينيين، خلال أعمال مجلس «جامعة الدول العربية» المنعقد في بداية مارس 2019، حينما قال: «(…) ولن نترك أرضنا ولن نغادرها، وسنبقى ندافع عن حقوقنا حتى نحققها، لكن صمود الشعب الفلسطيني لن يكتمل إلا بدعم أشقائنا العرب».

رابعاً: في مستلزمات استعادة العرب لزمام صنع مستقبلهم:

إن ما يتهدد القضية الفلسطينية من مخاطر محدقة بحاضرها ومستقبلها، لا يتوقف عند حدود إطارها الوطني، الفلسطيني، باعتباره عنواناً جامعاً لكفاح مرير ضد الاحتلال والعنصرية، يخوضه شعب صامد منذ أزيد من سبعة عقود، وإنما تتعداه (أي المخاطر المحدقة) لتهديد أمن واستقرار الأمة العربية جمعاء، اعتباراً لمتانة التلاحم، وقوة التفاعل اللذين يشدان الشعوب العربية والإسلامية إلى القضية الفلسطينية من جهة، وإلى ضخامة الرهانات السياسية والجيوسياسية، الإقليمية والدولية، التي تكمن خلف مصير القضية الفلسطينية من جهة أخرى.
وفي هذا الصدد، فإن إقدام الرئيس الأمريكي، دولاند ترامب، على الاعتراف بــ»سيادة» إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، كما سبق له أن اعترف بإسرائيلية القدس الشرقية المحتلة عام 1967، ونقل سفارة بلدها إليها، في انتهاك سافر، صارخ للشرعية الدولية، إنما يجدد التأكيد على شمولية التهديد الذي يستهدف أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط بضفة خاصة، وينال من سيادة الأقطار العربية ووحدة ترابها بصفة عامة.
وإزاء هذه التطورات التي تنطوي على مخاطر جسيمة، فإن دقة الظرف تسائل بكل قوة المجتمع الدولي و»جامعة الدول العربية» والقوى الشعبية العربية، لاتخاذ ما يلزم من مواقف وقرارات ومبادرات من شأنها احتواء هذه التحديات في الأمد القريب والمتوسط والبعيد.
I/ بالنسبة للمجتمع الدولي، فإنه مطالب بالدفاع الحازم عن أحكام القانون الدولي، وتفعيل قواعد «الشرعية» الدولية، التي تشكل سداً منيعاً في وجه «شريعة الغاب» التي ينخرط فيها، بدون رادع، التحالف العدواني الإسرائيلي-الأمريكي، ضد حرية وسيادة ووحدة تراب الكثير من الأقطار العربية.
إن ما أثاره القرار الأمريكي في شأن الاعتراف بـ»سيادة» إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، من رد فعل عربي ودولي واسع، ليدعو إلى التفاؤل، ويغذي الإيمان العربي بحتمية تحرير كافة الأراضي العربية المحتلة في فلسطين وسوريا ولبنان.
لكن مواقف الشجب والإدانة لإجراءات التحالف العدواني بضم «القدس الشرقية» و»هضبة الجولان السورية» إلى إسرائيل، ضداً على القرارات الأممية ذات الصلة، لم تعد تكفي لردع المحتل عن مواصلة انتهاكاته، بل إن دقة الظرف أضحت تستدعي اتخاذ إجراءات أكثر فعالية وإنتاجية في تعزيز سلطة القانون الدولي، وفي حماية مبادئ وأهداف الأمم المتحدة.
وفي هذا السياق، فإن دعم طلب دولة فلسطين للحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وتَكَفّل الأخيرة بإرساء «حماية دولية» للشعب الفلسطيني، الرازح تحت الاحتلال منذ سبعة عقود، بات أمراً يفرض نفسه، من أجل حمايته في ذات وجوده وحقوقه وأمنه وسلامته.
II/ أما «جامعة الدول العربية»، فإنها مدعوة إلى إحداث نقلة نوعية في شروط وضعها الراهن، وذلك بالعمل على استعادة زمام المبادرة فيما يتعلق بتدبير مهام:
صيانة «الأمن الجماعي» العربي؛
واستعادة وحدة الصف، وتقوية عُرى التضامن بين الأقطار العربية؛
والسهر الحازم على تفعيل مقتضيات «ميثاق الجامعة» وملحقاته المتعددة، المتعلقة بمختلف المجالات الأمنية والاقتصادية والتنموية الخ…
ومن جهة أخرى، فإن إقدام الرئيس الأمريكي على الاعتراف بـ»سيادة» إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، قد أحدث تغييراً معتبراًـ لافتاً في المعطى المتعلق بتجميد عضوية سوريا في «جامعة الدول العربية»، يستدعي بالتالي تقييماً عربياً جديداً لهذا الوضع، في اتجاه خلق المناخ السياسي المناسب، لتعبئة عربية جماعية لاحتواء تحديات اليمين الإسرائيلي-الأمريكي، قبل أن تستفحل نزواته التوسعية لابتلاع ما تبقى من الأراضي العربية المحتلة في فلسطين (الضفة) ولبنان (الجنوب).
وفي هذا السياق، يتعين التأكيد على عروبة الجولان المحتل ومساندة مطلب الجمهورية العربية السورية العادل، وحقها في استعادة الجولان كاملاً، استناداً إلى أسس عملية السلام، وقرارات الشرعية الدولية.
ومن جهة أخرى يتعين على «الجامعة العربية» بذل المساعي المطلوبة لوقف هرولة بعض العرب نحو «التطبيع» مع إسرائيل، إذ أن هذه الخطوة لا تعدو أن تكون، في أحسن الأحوال، وهماً لمن يعتقد أن «التطبيع» من شأنه إقناع إسرائيل ومن يقف خلف مشروعها التوسعي، الاحتلالي، بالانخراط في التسوية السياسية للصراع العربي-الإسرائيلي.
وإزاء دقة وحساسية الظرفية العربية الراهنة، بما تتسم به من تعدد المخاطر، وتناسل التناقضات العربية-العربية والإقليمية، فإن واجب «جامعة الدول العربية» إعدادُ «خرائط طريق» تمكن من تحجيم الخلافات العربية-العربية، واحتواء النزاعات التي تعصف بأمن وسلامة واستقلال أقطار عربية شقيقة، كما هو الحال في اليمن وليبيا، وذلك بالتشاور والتوافق مع مؤسساتها الحكومية، الشرعية من جهة، وبالتنسيق مع الأمانة العامة للأمم المتحدة من جهة أخرى.
كما أن العمل على التفعيل الرصين للقــــرارات التي يُتــــوقع أن تصـــدرها قمــــة تـــونس العربية (28-31/5/2015) – وفق المشاريع المدرجة في جدول الأعمال – وفي مقدمتها القرارات المتعلقة بقضية فلسطين وبالأراضي العربية المحتلة في سوريا ولبنان والإمارات العربية المتحدة (الجزر الثلاث) – لجدير بأن يشكل منطلقاً جديداً، يعيد الروح إلى «جامعة الدول العربية» وينفض الغبار عن عدد كبير من مؤسساتها وقراراتها.

III/ أما القوى الشعبية العربية، أحزاباً ونقابات وهيئات مهنية ومؤسسات المجتمع المدني، فإن مسؤوليتها لا تقل أهمية عن مسؤولية الحكومات العربية.
وفي هذا الإطار، فإن إعادة الاعتبار للعمل التضامني، الجماهيري، الواعي والمسؤول، مع القضية الفلسطينية، في اتجاه دعم المقاومة الشعبية، السلمية لشعبها، ومناصرة الحلول والمقاربات التي تقرها «منظمة التحرير الفلسطينية» – ليشكل رافعة أساسية فعالة من روافع إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
ومما لا ريب فيه، فإن إشكالية «الانقسام» الفلسطيني الذي طال أمده، وانهارت محاولات إنهائه، واحدة تلو الأخرى، منذ عام 2005، لم يعد شأناً خاصاً بالفلسطينيين، طالما أنه بات يشكل عامل تعويق لحركة الكفاح الفلسطيني، بل إنه أصبح أمراً يهم القوى الشعبية العربية، التي تعتبر أن مسألة تحرير فلسطين هي جزء لا يتجزأ من قضية أشمل، هي قضية تحرر ونهضة الأمة العربية.
ومن ثم، فإن من واجب القوى الشعبية العربية السياسية والمجتمعية أن تتدخل، لتمارس ضغطاً معنوياً وسياسياً على طرفي النزاع الفلسطيني: «حركة حماس» و»السلطة الوطنية» الفلسطينية، من أجل طي صفحة الانقسام على قاعدة، وفي إطار تموقع طرفيه تحت مظلة وقيادة «منظمة التحرير الفلسطينية».

خاتمة:

لكن التحرك الاستعجالي لصياغة أجوبة جريئة وناجعة عن التحدي الإسرائيلي-الأمريكي الجديد، في موضوع «الوضع القانوني» للأراضي العربية المحتلة، ينبغي أن لا يحجب العمل على تخفيض التوترات، وتسوية النزاعات مع دول الجوار الإقليمي، الإيراني والتركي، تحديداً، على طريق إرساء نظام إقليمي، شرق أوسطي، قوامه التعايش والتعاون والتشارك بين الأقطاب الإقليمية الثلاثة: القطب العربي، والقطب الإيراني والقطب التركي، على قاعدة الالتزام بمبادئ سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وغايته تعزيز المصالح المشروعة لكل طرف من الأطراف الإقليمية الثلاثة، وكذا إرساء شراكات تنموية إقليمية، شرق أوسطية، من شأنها تعزيز المشاريع الوطنية للتنمية، وتمكنها من بعد إقليمي واعد.

الرباط في 31 مارس 2019

الكاتب : السفير محمد الاخصاصي - بتاريخ : 03/04/2019