القرار الملكي …رسائل ودروس

عبد السلام المساوي

شكرا جلالة الملك !
شكرا على تجسيد روح الدين ، وجوهره، ورحمته ، والمراد حقا من شعائره .
شكرا على تعظيم شعيرة الله بالقيام بها مرتين، مرة عن جلالتكم ، ومرة عن شعبكم الذي تعنون له كل شيء ويعني لمقام جلالتكم العالي كل الأشياء .
شكرا على تقديم الدرس الحضاري المغربي مجددا للجميع .
شكرا على السير سير ضعفائنا ، والرفق بحال أكثرنا هشاشة ، وتذكيرنا أنه الملك الإنسان الذي ينشغل بأمر الناس ، خصوصا من لا حول لهم ولا قوة ، ومن هزمهم الوقت والزمن وتقلبات صروفهما .
شكرا جلالة الملك !
أقل ما يمكن أن يفعله المغاربة لرد التحية بأجمل منها لجلالة الملك الذي أزال عنهم عناء التفكير والتدبر والتكليف والتكلف في شراء أضاحي العيد ولوازمها، وأزاح عنهم وزر التحمل الشرعي والديني، إذ يفكر عدد من المواطنين في عدم الذبح لظروف اقتصادية ، لكن يخافون مخالفة حكم الله في شعائره الدينية ، والمؤكدة منها على وجه التحديد .
شكرا جلالة الملك !
التي رددها المغاربة فور سماعهم بلاغ الديوان الملكي، الذي تلاه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، هي تعبير عن ارتياح ، وتنفس للصعداء ، وإنزال حمل ثقيل عن الأكتاف ، وتخلص من تفكير طويل في مصاريف شراء الأضاحي ، وسط غلاء فاحش زادته الظرفية الاقتصادية والمناخية ، و» ترتيبات « المضاربين و « الشناقة « ، التهابا .
شكرا جلالة الملك !
التي تناقلها رواد مواقع التواصل الاجتماعي ( التي تضم آلاف المشتركين والمدونين ) ، هي نهاية كابوس ، وأجمل هدايا رمضان، إذ يستطيع المغاربة قضاء الشهر الفضيل وبعده عيد الفطر ، دون أن يكونوا مضطرين إلى التفكير في مصاريف الأضاحي ولوازمها ، وإرهاق الميزانيات والمداخيل الشهرية المنهكة بأشياء أخرى ، بمزيد من القروض والسلفات و « الطليب والرغيب « لسد النفقات الثقيلة .
إن المغاربة جميعهم، كانوا ينتظرون الخبر الذي أعلن عنه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، ليلة الأربعاء، بإلغاء نحر أضحية عيد الأضحى هذه السنة ، مع الابقاء على كل طقوس الشعيرة الأخرى، من صلاة العيد، حتى البقية ، لأن الظرفية الاقتصادية تحتم ذلك، ولأن الضرورة هذا العام هي لإنقاذ حال ثروتنا الحيوانية مما يتهددها بعد سنين الجفاف ، وكثير المؤثرات غير الطيبة التي أوصلت المغرب إلى اتخاذ هذا القرار .
ساد ارتياح عميق لدى المغاربة، فالرسالة المولوية كان يترقبونها جميعا من المؤسسة الملكية، التي عودتهم القرارات الحكيمة والصائبة التي تهدف إلى ما فيه خير الوطن، والتي خبروا فيها دائما إنصاتها العميق لنبضهم، واستشعارها الدقيق لما يموج بداخلهم من مطالب وتطلعات .
لذلك كان الارتياح عاما، وشاملا ، يعبر عن امتنان الشعب كله للعاهل الكريم ، أن تحمل جلالته ، باعتباره أمير المؤمنين ، مسؤولية القيام مسؤولية القيام بالشعيرة مرتين ، عنه وعن أمته ، فاتحا المجال أمام تعامل أكثر انتماء للدين ، أي أكثر عقلانية وواقعية ، مع هذه المناسبة العظيمة لدى المغاربة .
لقد حرر البلاغ الملكي ملايين المواطنين من قيود الأعراف البالية وعيون الجيران، التي تتلصص من النوافذ على الأسر، التي اقتنت أضحية العيد، والأخرى التي عجزت عن ذلك، لتتحول بسرعة البرق إلى موضوع للتنمر الاجتماعي ، لا يفلت منه الصغار في الشارع والتلاميذ في المدرسة.
كان منتظرا أن يتحدث جلالة الملك في هذا التوقيت بالذات على بعد أكثر من ثلاثة أشهر من إحياء شعيرة عيد الأضحى ، لإغلاق التأويل بجميع أنواعه وغاياته ومراميه ونواياه السيئة ، وفتح المجال للأسر والعائلات ، من ذوي الدخول الضعيفة، للاستعداد للمناسبة الدينية في وضع مريح، ودون ضغط نفسي واجتماعي واقتصادي .
إن القرار الملكي، الذي جاء قبل أربعة أشهر من مناسبة عيد الأضحى يحمل في طياته كل معاني الحكمة ومراعاة التخفيف عن الأمة، كما يمنح فرصة كافية لتصرف الفلاحين الصغار وبيع منتوجهم المطلوب بالسوق الوطنية ، والوقت الاستباقي للمضاربات في شراء الأضاحي قبل وقت طويل من مناسبة العيد، ناهيك عن دعم الرفع من العرض بالنسبة لمنتوج اللحوم الحمراء وتراجع أسعارها تدريجيا بالنسبة للاستهلاك اليومي .
لا يختلف اثنان حول أن ارتفاع الأسعار أثر سلبا على التوازنات المالية للفئات الهشة والفقيرة ، لذلك فإن شريحة واسعة من الأسر تنفست الصعداء بعد القرار الملكي ، بعدما كان الكل يفكر في هم مصاريف شراء الأضاحي وسط لهيب الأسعار ، وصعوبة التخلي الفردي عن الشعيرة في ارتباط بالمخيلة الشعبية واحتفالية الأطفال وغير ذلك .
هذا القرار الملكي لبى إذن رغبة دفينة للأغلبية الساحقة من الشعب المغربي ، وبالتأكيد هو قرار مكتوب منذ الوهلة الأولى لإعلانه ، إذ لم يفعل الملك ، سوى أنه قرأ واستشف ما في النفوس ، واستجاب لها مباشرة وبشكل فوري .
توقيت القرار أيضا كان في محله، فهو مدروس بعناية حين يأتي عشية رمضان، فيتيح للمغاربة أن يصوموا مطمئنين ، كما أنه قد يكون عاملا في توفير اللحوم بثمن مناسب خلال هذا الشهر الفضيل .
أن يضحي جلالة الملك نيابة عن شعبه نيابة عن شعبه، يتضمن أيضا رسالة ذات حمولة رمزية كبرى تبين عن التلاحم الكبير بين العرش والشعب، هذا التلاحم الذي يصل إلى أن يقدم الملك قربان عيد الأضحى نيابة عن كل المغاربة لله تعالى. إنها رمزية نكتشف كل مرة أنها مكنونة في عقد البيعة الذي يصهر العرش بالشعب.
إن القرار الملكي هو أيضا درس في التدبير الاقتصادي حين تدهمنا الندرة، سواء كانت هذه الندرة تهم القطيع ، أو الماء، أو أية مادة حيوية أو غذائية أخرى.
فيا للمفارقة، لقد تحققت لعيد الأضحى لهذه السنة غاياته من قبل حلول موعده بأكثر من ثلاثة أشهر، بهذا القرار الملكي الرزين الذي أدخل الفرحة والبهجة لكل القلوب ولكل البيوت…أرجو أن نستوعب جميعا هذه الإشارات الملكية ، ونتأسى بها للحفاظ على مقدراتنا، وخصوصا الماء.
إن شجاعة اتخاذ القرارات حين ضرورتها علامة مسجلة باسم المغرب وملكه الكريم، وهي دلالة سير الدولة هنا سيرا سديدا، يتفاعل مع الصغيرة ومع الكبيرة في كل ما يخص البلاد والعباد، وتلك، لعمري، الحسنة الكبرى والميزة الأعظم، التي تجعل الناس تذوب عشقا في العرش وملكها، وتنتهز كل الفرص والمناسبات، لكي تقول بكل الحب الصادق والفعل الأمين كل مرة: شكرا، جلالة الملك.
هذه المرة أيضا، لن نشذ نحن المغاربة عن قاعدتنا الدائمة، وعن ديدننا القديم، وسنقدم للآخرين درسا جديدا في كيفية التوفيق بين الدين وبين الدنيا، وجلب المصلحة للناس فيهما معا، ودرء المفسدة، وإعلاء صوت العقل على ما عداه في هذه الربوع المباركة الطيبة.
ذلك قدر المغرب والمغاربة، ملكا وشعبا، أن يكونوا درسا دائما ومتجددا ومستمرا في الزمان والمكان، لكل راغب في الاستفادة من كل هذه الدروس الملقاة في المدرسة العظمى المسماة: المملكة المغربية الشريفة.
وإذا كان جلالة الملك حرر المواطنين اجتماعيا وماليا من هذه المناسبة الدينية ، وأزال العبء عن الحكومة ، فإن المطلوب اليوم قبل الغد « تسديد الرماية « وإعادة النظر في الاستراتيجيات وتقييم السياسات العمومية في مجال تنمية الثروة الحيوانية وسلاسل الإنتاج المرتبطة بها والحفاظ على ديمومتها ، سواء لتوفيرها للعيد بأثمنة مناسبة ، أو تزويد الأسواق ، بشكل منتظم لما تبقى من أيام السنة مع مراعاة العرض والطلب والقدرة الشرائية للمواطنين .
إن إلغاء الذبح في العيد المقبل، لا يعفي أحدا من الجلوس إلى طاولة الحساب وتقديم الحصيلة . وفرز الأسباب الموضوعية والطبيعية التي لا مناص منها من أخطاء التدبير التي فسحت المجال ل « الوساطة المتوحشة « بين البائع الحقيقي والزبون الحقيقي، وأنتجت مضاربين أكثر وحشية، يقتاتون على الأزمات، ويصطادون في الماء العكر، ويدفعون البلد لا قدر الله ، إلى حافة اللاسلم الاجتماعي .
لقد دق جلالة الملك بعلو حكمته وبعد نظرته، ناقوس التنبيه، وعلى الآخرين (في جميع المجالات والمسؤوليات والمواقع) التقاط الإشارة.

الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 03/03/2025