الكاتب والقارئ وعناد الواقع
مصطفى خُلَالْ
قال السائل وهو صديق من المغرب، بعد إطراء أخجل ما أشعر به من تواضع، إنه يكره مني أني لا أكتب على الدوام وباستمرار في ما يهم الوطن مباشرة. وقال صديق آخر وهو فرنسي إن ما يشده أحيانا في تلك المقالات هو حين يقرأ فيها ما لا يرتبط بالإيديولوجيات الوطنية، معتبرا هذه الأخيرة لا تقدم شيئا للفكر الإنساني، وأنها في الغالب تدغدغ عواطف الوطنيين الذين لا يهمهم (الشرط الإنساني) إلا من زاوية وحيدة تخص قضاياهم «الخاصة».
مرت أيام على المذاكرتين ونسيتهما تماما. حتى جاءني نقد لاذع من نفس صديقي من المغرب يقول لي فيه إن البلد يعرف أزمات وأنت تكتب لنا عن رواية (ثرثرة فوق النيل) وعن نقد النازية في رواية ( الطاعون) لألبير كامي. وقال غاضبا إنني «أُخَرف».
والحق أني أرى أن صديقي من المغرب محق في قوله. المشكلة أني لست مندسا في الواقع المغربي اندساسا. أعترف بهذا وأجده نقيصة كبرى في حياتي كمفكر. أحيانا أجدني متجاوزا ولا أفقه في واقع بلدي شيئا. أذكر أني قرأت مرة كتيبا صغيرا حرره عبد الله ساعف، مدير مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية والأستاذ الجامعي والوزير للتعليم، بالمغرب، يتتبع فيه يوميات كان يستقل فيها الأوطوبيس مع الشعب، فقط من أجل أن يفهم ما يدور في المجتمع. وكان الأديب والمفكر والمؤرخ عبد الله العروي يدون ملاحظاته اليومية تقريبا ونشرها في كتاب أعطاه عنوان (خواطر الصباح). ويذكر أنه راح مرة يتمشى فقادته رجلاه إلى (حي العكاري) الشعبي بالعاصمة المغربية، الرباط، وهناك انزوى في مقهى شعبية حيث دار حوار بينه وبين شاب يجلس في ذات المقهى يقرأ في جريدة مكتوبة بالأمازيغية. جال الحديث عن هذه اللغة بالذات. وفيه ضمن ملاحظته الرصينة بأن ليس المشكل مع إقرار لغة بل إن ما يشغله هو التكلفة .
لندع الصديقين ولنلاحظ فقط أن القارئ النبيه يراقب الكاتب مراقبة شديدة ويحكم على ما يقرأ من وجهة نظره هو وليس من منظور الكاتب. صحيح أن هذا الأخير حر، غير أنه شاء أم أبى مقيد بصورة أو بأخرى…وأكثر قيوده صرامة هي تلك التي تُلْزِمُه بأن يكون ذا أصالة في ما يقترحه على القارئ.
ما أكثر الكتاب النَقَلَة المفسرين الشارحين، السابحين في بحر الإيديولوجيا، وما أنفس الكتاب الأصيلين الذين لا يخضعون في ما ينتجونه من أفكار للمطلقات يستنبطون منها «أفكارهم». هذا من جهة، ومن جهة أخرى لابد من القول إن الكاتب الأصيل القارئ النبيه يكمل أحدهما الآخر. ما قيمة ما يكتبه الكاتب إذا لم يجد من يستقبل فكره إذا كان مفكرا أو إبداعه إذا كان خالقا. فالكاتب والقارئ النبيه لا يماشيان الجماهير التي لا يلهمها الفكر بقدر ما تشغلها النوازع والمصلحة الآنية. تستقبل الجماهير تفاسير السطحيين الذين يقولون لها إن الطفل ريان، مثلا، كائن مقدس، وإنه رسالة إلهية. أما إذا حاول الكاتب البحث عن أبعاد أخرى لحادثة الطفل ريان، فإنه لا ينبغي له أن يتوهم، خارج القارئ النبيه، أن تستقبل الجماهير رؤيته بالأحضان. لقد رأت الجماهير صورة الملك محمد الخامس في المغرب، رأتها على وجه القمر. لا الكاتب ولا القارئ النبيه يملكان السلطة لتوعية الجماهير أن هذا غير ممكن. يبقى على الكاتب لا أن يساير الجماهير، التي هي انفعالية بالدرجة الأولى في أي فضاء ثقافي وُجِدَت وخاصة في العالم العربي، ولكن أن يؤول الواقع بنباهة وعمق، ولا يعني هذا أن للكاتب سلطة على الجماهير، إذ من أجل أن يتأتى له هذا ينبغي أن يكون مفكرا نسقيا عملاقا تحفر أفكاره مسارب في الواقع على طول أزمنة، تساعده في ذلك ظروف تاريخية خاصة واستثنائية، قد تلعب فيها حتى الصدفة نفسها دورا غير متوقع.
لا يتعب الفلاسفة من القول إن النص الذي لا يخلق فيك روح التساؤل والشك ويشحذ فيك نزعة التفكير الحر لا يستحق أن يسمى نصا فلسفيا. أجد أن هذا الحكم ينطبق بصورة أو بأخرى على الكاتب. إذا لم ينجح هذا الأخير في دفع القارئ إلى التفكير فإن وظيفته ككاتب لا تحقق غاياتها حتى وإن لم يستطع هذا الكاتب أن يندس في الواقع ويكتب عنه وفيه. وطبقا للتجربة الإنسانية وخاصة في حياة الكتاب ككتاب، ليس هناك أكثر تعقيدا وعنادا من الواقع الإنساني، المحلي منه والعالمي.
أشعر أني ما أزال بعيدا عن تحقيق رغبة صديقي من المغرب، خاصة وهو يراني أكتب عن ألبير كامي، وعن نجيب محفوظ، كتابات هي بالأحرى تداعيات أكثر منها كتابات حقة…
الكاتب : مصطفى خُلَالْ - بتاريخ : 22/02/2022