المؤتمر الثاني عشر: لحظة وعي اتحادي لإعادة بناء الثقة وتجديد المشروع الديمقراطي

سعيد الخطابي (*)

الاتحاد الاشتراكي في مواجهة تحديات الزمن السياسي الجديد وإعادة تعريف دوره داخل المجتمع المغربي

 

يستقبل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مؤتمره الوطني الثاني عشر في ظرف وطني دقيق يتسم بتراجع منسوب الثقة في الفعل السياسي، وببحث المجتمع المغربي عن معنى جديد للأمل والإصلاح. لم تعد التحديات اليوم تنظيمية فحسب، بل فكرية ووجودية أيضاً؛ فالمسألة المطروحة أمام الحزب هي كيف يعيد إنتاج ذاته كقوة اقتراحية مسؤولة، قادرة على إعادة الاعتبار للسياسة باعتبارها التزاماً أخلاقياً ووطنياً، لا مجرد تدبير تقني أو تنافس انتخابي.
إن هذا المؤتمر لا يأتي فقط كتقويم داخلي لمسار تنظيم، بل كلحظة وعي اتحادي عميق تطرح فيها الأسئلة الجوهرية حول المشروع الاتحادي نفسه: موقعه في المشهد الوطني، قدرته على التجدد الفكري، ومسؤوليته التاريخية في حماية التوازن السياسي والاجتماعي بالمغرب. فالاتحاد الاشتراكي يدخل هذه المحطة بروح نقدية ناضجة، مستحضراً تاريخه المجيد ومؤمناً بأن الوفاء للماضي لا يكتمل إلا بإبداع المستقبل.
لقد ظل الاتحاد، منذ تأسيسه، مدرسة في الوطنية والاستقلالية الفكرية، وحزباً عصياً على الاحتواء أو الوصاية. فهو لا يقاد من الخارج، ولا يخضع لإملاءات أحد، بل ينبع قراره من إرادة مناضليه ومناضلاته في الفروع والقطاعات والهيئات التنظيمية. هؤلاء الذين يمثلون روح الاتحاد ونبضه الحقيقي، يواصلون اليوم إعادة صياغة مساره من خلال نقاش داخلي صادق ومسؤول، يؤكد أن الاتحاد حزب حي يتجدد من داخله، لا يستمد وجوده من الماضي فقط، بل من طاقته على التجاوب مع التحولات واستيعاب مطالب المجتمع الجديد.
ومنذ نشأته، حمل الاتحاد الاشتراكي راية الكفاح الوطني والاجتماعي، وكان صوتاً للضمير الجمعي المغربي. من المهدي بن بركة إلى عمر بنجلون، ومن عبد الرحيم بوعبيد إلى عبد الرحمان اليوسفي، ومن أجيال المناضلين الذين ضحوا من أجل الحرية والكرامة، استمد الحزب معناه الحقيقي، معنى الوفاء لقيم التضحية والمواطنة والعدل. فالاتحاد لا ينسى رواده ولا يتنكر لتاريخه، لأنه يدرك أن الوفاء للتاريخ ليس مجرد استحضار للذاكرة، بل هو استمرار للرسالة وتجديد للعهد مع الوطن.
لقد كانت المؤتمرات الاتحادية المتعاقبة، منذ المؤتمر الأول إلى الحادي عشر، فضاءات فكرية وسياسية راقية، ومنتديات للنقاش والتفكير الجماعي حول قضايا الوطن والمجتمع. كانت حلقات نقاش مفتوحة حول المغرب الراهن والمستقبل الممكن، وحول أسئلة العدالة والمساواة والتنمية والحرية. واليوم، وفي ظل وضعية مالية واقتصادية مقلقة تعيشها البلاد، وحكومة نيوليبرالية لا تُعير اهتماماً لمغرب الهامش والمنسي، للقرى والجبال والمناطق النائية، يتجدد السؤال الاتحادي حول النموذج التنموي الذي أفشلته هذه الحكومة، وحول أي مغرب نريد: مغرب صاعد يسع الجميع، يُبنى على العدالة المجالية، وعلى سياسات اجتماعية واقتصادية منصفة تعيد الثقة بين المواطن والدولة. إن المؤتمر الثاني عشر يأتي إذن امتداداً لتلك المدرسة الاتحادية في التفكير والنقد، ولتلك المنتديات التي كانت ولا تزال تصنع الوعي الوطني الجماعي.
إن الحزب الذي قدم خيرة أبنائه من أجل بناء مغرب الديمقراطية والمساواة، يدرك أن الاستمرار في حمل هذا المشروع يقتضي الإنصات العميق لنبض الشارع ولصوت الشباب، فهؤلاء يمثلون اليوم المستقبل الذي من أجله ناضل الاتحاد لعقود. الشباب لا يعارضون السياسة، بل يعارضون تمييعها، لا يرفضون الأحزاب، بل يرفضون الزيف والانتهازية والوعود الكاذبة. لذلك، فإن الاتحاد الاشتراكي، بحكم تاريخه ورصيده الأخلاقي، مطالب أكثر من أي وقت مضى بأن يكون في قلب المجتمع، قريباً من الناس، مدافعاً عن كرامتهم، حاملاً لهمومهم إلى مواقع القرار، ومجدداً صلته بجذوره الشعبية التي منها وُلد وإليها يعود.
وفي ظل ما يعرفه المشهد الوطني من تراجع خطير في منسوب الثقة، ومن تغول حكومي يسعى إلى إفراغ السياسة من مضمونها وتحويلها إلى إدارة تقنية بلا روح، يظل الاتحاد الاشتراكي صوتاً عاقلاً وشجاعاً في آن واحد، رافضاً للردة السياسية، ومؤكداً أن لا ديمقراطية بدون تعددية حقيقية، ولا دولة اجتماعية بدون توازن سياسي ومؤسساتي، ولا إصلاح دون أحزاب وطنية تمتلك الشرعية الفكرية والتاريخية. فالخطر الأكبر اليوم ليس في الاختلاف، بل في محاولات إخراس الأصوات المستقلة وإقصاء الأحزاب ذات الرسالة الوطنية من ساحة القرار. وهنا يتجلى دور الاتحاد كصوت مقاوم لكل أشكال التسلط، وحامٍ للمعنى الوطني، وسد أمام انزلاق الممارسة السياسية نحو الانغلاق أو التبعية.
الاتحاد الاشتراكي لم يكن يوماً حزباً يعيش على أمجاد الماضي، بل حزباً يستلهم من تاريخه ما يعينه على بناء المستقبل. الوفاء عنده لا يعني الجمود، بل التجدد، والإخلاص للمبادئ لا يعني الانغلاق، بل الانفتاح على التحولات المجتمعية والاقتصادية والثقافية. لذلك، فإن المؤتمر الوطني الثاني عشر ليس مجرد محطة تنظيمية، بل هو لحظة فكرية كبرى لإعادة صياغة الرؤية الاشتراكية الديمقراطية على ضوء تحديات العصر: من التحول الرقمي إلى العدالة المناخية، ومن العدالة الاجتماعية إلى تمكين الشباب والنساء، ومن النهوض بالمدرسة العمومية إلى حماية الطبقة الوسطى والفئات الهشة.
وحين تبنى الاتحاد الاشتراكي شعار الدولة الاجتماعية، لم يكن يستعير خطاباً جاهزاً ولا يركب موجة سياسية آنية، بل كان وفياً لجوهر مشروعه منذ التأسيس: أن الحرية لا تكتمل إلا بالعدالة، وأن التنمية لا معنى لها دون كرامة، وأن الاقتصاد لا يكون وطنياً ما لم يخدم الإنسان. فالدولة الاجتماعية التي يدافع عنها الاتحاد ليست شعاراً انتخابياً، بل عقداً اجتماعياً جديداً يؤسس لتوزيع عادل للثروة، ولسياسات عمومية تضمن المساواة في الفرص، وتعيد الثقة بين المواطن والدولة، وتجعل من العدالة محور التنمية.
وفي الوقت الذي يتهيأ فيه الحزب لعقد مؤتمره الوطني الثاني عشر، تتجدد الأسئلة، ولكنها أيضاً تتجدد الإرادات. فالاتحاد الاشتراكي يدخل هذه المحطة بعزيمة مناضليه، وبروح نقدية مسؤولة، وبإيمان لا يتزعزع بأن الإصلاح لا يكون إلا بالفعل الجماعي، وبأن الانتصار للديمقراطية لا يتحقق إلا عبر التجذر في المجتمع. إن المؤتمر ليس فقط مناسبة لمراجعة الذات، بل فرصة لتجديد العهد مع الوطن، ومع القيم التي جعلت من الاتحاد الاشتراكي مدرسة في الوطنية والنزاهة والعقلانية السياسية.
إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو يستعد لمؤتمره الثاني عشر، يثبت أنه ما زال الحزب الذي لا يقاد إلا بإرادة أبنائه، ولا يعيش إلا من نبض مناضليه. حزب لا يقبل الوصاية ولا الخضوع، لأنه كان وسيبقى ضميراً حياً للوطن، وفياً لتاريخه، مخلصاً لقضاياه، ومؤمناً بأن المغرب لن يتقدم إلا بالديمقراطية، ولن ينهض إلا بالعدالة الاجتماعية، ولن يحافظ على تماسكه إلا بوجود أحزاب حقيقية تمتلك الرؤية والمسؤولية والجرأة الأخلاقية.
الاتحاد الاشتراكي لا يعيش بالماضي، بل يحيا بالمستقبل، ولا يكتفي بالخطاب، بل يصنع الأمل بالفعل، متمسكاً بإرث رواده ومناضليه، ومؤمناً أن أبناء هذا الحزب، الذين يرسمون ملامحه في الميدان، هم وحدهم من يقررون مستقبله، لأن الاتحاد يعيش بنبض مناضليه، ولا صوت يعلو فوق إرادتهم الحرة.

(*)الكاتب الإقليمي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالحسيمة

الكاتب : سعيد الخطابي (*) - بتاريخ : 16/10/2025