الماء والطاقة: التحديان الأكبر أمام التنمية الاقتصادية في المغرب
علي الغنبوري
يعد الماء والطاقة من الركائز الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المغرب، حيث التحديات البيئية والتغيرات المناخية تتصاعد بشكل غير مسبوق، مع بروز أزمة الموارد المائية والطاقة كواحدة من أعقد المشكلات التي تواجه البلاد، مما يضعها أمام اختبارات حاسمة لإيجاد حلول مستدامة.
تتسم الموارد المائية في المغرب بتوزيعها الجغرافي غير المتوازن، مع تفاوت كبير بين المناطق الشمالية الغنية بالمياه والمناطق الجنوبية والجافة، إضافة إلى ذلك، يفاقم التغير المناخي الأزمة من خلال تقلبات هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة، مما أدى إلى نضوب الأحواض المائية التقليدية وزيادة الاعتماد على الموارد غير التقليدية كتحلية المياه وفي المقابل، تواجه منظومة الطاقة تحديات مشابهة، حيث يعتمد المغرب بشكل كبير على واردات الطاقة لتلبية احتياجاته، مما يتركه عرضة لتقلبات أسعار النفط والغاز في الأسواق الدولية.
هذه التحديات تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد المغربي، إذ يواجه القطاع الفلاحي الذي يشكل مصدرا رئيسيا للدخل وفرص العمل أزمة في تأمين مياه السقي، بينما يعيق نقص الطاقة تطور القطاعات الصناعية والخدماتية، كما أن تحقيق أهداف النموذج التنموي الجديد، الذي يُعول عليه لتحفيز التنمية الشاملة والمستدامة، يظل رهينا بمدى قدرة المغرب على إدارة موارده المائية والطاقية بكفاءة وفعالية.
وفي هذا السياق، يبرز سؤال محوري، كيف يمكن للمغرب تحقيق التوازن بين الطلب المتزايد على الماء والطاقة من جهة، وضمان استدامة هذه الموارد من جهة أخرى؟ من خلال هذا المقال، سنتناول أبرز التحديات المرتبطة بالماء والطاقة في المغرب، مع تسليط الضوء على السياسات والاستراتيجيات المتبعة، واستعراض الخيارات المستقبلية التي يمكن أن تعزز مناعة الاقتصاد المغربي وتدعم مسيرته نحو تنمية مستدامة.
أزمة الطاقة في المغرب:
رهانات الاستدامة ومواجهة التبعية الطاقية
تواجه منظومة الطاقة في المغرب تحديات هيكلية ترتبط بالاعتماد الكبير على واردات النفط والغاز، التي تغطي حوالي 90% من احتياجات البلاد الطاقية. هذا الاعتماد يعرض الاقتصاد المغربي لتقلبات حادة في الأسواق العالمية، خاصة مع ارتفاع أسعار الطاقة وتذبذبها، مما يؤثر بشكل مباشر على التوازنات الاقتصادية الكبرى، في عام 2022 مثلا، بلغت الفاتورة الطاقية للمغرب حوالي 16 مليار دولار، وهو رقم يعكس الأثر الكبير لتكاليف استيراد الطاقة على المالية العامة، حيث تساهم هذه الفاتورة في تفاقم عجز الميزان التجاري وزيادة الضغط على احتياطيات العملة الصعبة.
هذا الوضع يبرز هشاشة النموذج الطاقي الحالي للمغرب، ويظهر الحاجة الملحة إلى إصلاحات جذرية تقلل من التبعية الطاقية وتعزز من قدرة الاقتصاد الوطني على مواجهة الأزمات، حيث تصبح مسألة التحول الطاقي في ظل هذه التحديات ضرورة استراتيجية لضمان استدامة الموارد الاقتصادية وضمان تكيّف المغرب مع المتغيرات الدولية، خصوصاً مع ارتفاع الطلب المحلي على الطاقة وتزايد الضغوط البيئية والمناخية.
للتعامل مع هذا التحدي، اعتمد المغرب استراتيجية طموحة تهدف إلى تعزيز دوره في مجال الطاقات المتجددة وتقليل اعتماده على المصادر التقليدية. تهدف هذه الاستراتيجية إلى تحقيق إنتاج 52% من إجمالي الطاقة الكهربائية من مصادر متجددة بحلول عام 2030، ولتحقيق هذا الهدف، أطلق المغرب مشاريع عملاقة في مجالات الطاقة الشمسية، الريحية، والكهرومائية، حيث يعتبر مجمع نور للطاقة الشمسية في ورزازات أحد أبرز المشاريع العالمية في هذا السياق، إلى جانب ذلك أطلق المغرب مشاريع كبرى مثل مزرعة طرفاية للطاقة الريحية، التي تعد من بين الأكبر في إفريقيا، كما يتم تطوير مشاريع جديدة في مناطق مثل طنجة وتازة والداخلة، حيث تعتبر الرياح القوية في هذه المناطق ميزة تنافسية تعزز من قدرات المغرب الإنتاجية.
ومع التوجه العالمي نحو الحد من الانبعاثات الكربونية، يراهن المغرب على استثمار إمكاناته الطبيعية في مجال الهيدروجين الأخضر، الذي يعتبر وقود المستقبل، فالمغرب، بفضل موارده الشمسية والريحية الوفيرة، يسعى إلى أن يصبح لاعبا رئيسيا في إنتاج الهيدروجين الأخضر، ما يضعه في موقع متميز لتلبية الطلب العالمي للهيدروجين الأخضر، وهو ما جعله يطلق استراتيجية «عرض المغرب للهيدروجين الأخضر» كأرضية استثمارية مبتكرة في مجال الهيدروجين الأخضر تستقطب المستثمرين من كل أنحاء العالم.
ورغم التقدم الملحوظ الذي أحرزه المغرب في تعزيز الطاقات المتجددة وتطوير مشاريع استراتيجية كبرى مثل الطاقة الشمسية والريحية، إلا أن الطريق نحو تحقيق تحول طاقي شامل ومستدام لا يزال مليئا بتحديات هيكلية ومعيقات جوهرية تهدد مسار تحقيق السيادة الطاقية، من أبرز هذه التحديات ضعف البنية التحتية الحالية، حيث تظل شبكات النقل والتوزيع غير مؤهلة بالشكل الكافي لاستيعاب الإنتاج المتزايد للطاقات النظيفة، هذا النقص يعوق دمج الطاقات المتجددة في النظام الطاقي الوطني بكفاءة ويُبطئ وتيرة التحول الطاقي الذي يعول عليه المغرب لتقليل الاعتماد على واردات الطاقة.
بالإضافة إلى ذلك، يواجه المغرب صعوبات كبيرة في توفير التمويلات اللازمة لمواصلة تطوير مشاريعه الطموحة، حيث يعتمد بشكل كبير على التمويلات الدولية والشراكات مع القطاع الخاص، ومع التحديات الاقتصادية العالمية وتزايد المنافسة على رؤوس الأموال، بات من الضروري تحسين مناخ الاستثمار الوطني من خلال تبسيط المساطر، تقديم حوافز مالية وضريبية، وضمان استقرار التشريعات لتحفيز المستثمرين على دخول قطاع الطاقة المتجددة.
تضاف إلى ذلك التحديات التكنولوجية، حيث تتسارع وتيرة الابتكارات في مجال إنتاج و تخزين الطاقات النظيفة، مما يفرض على المغرب مواكبة هذا التطور لضمان كفاءة مشاريعه وقدرتها التنافسية، غير أن الاستثمار في البحث العلمي وتطوير الكفاءات الوطنية لا يزال دون المستوى المطلوب، ما يجعل المملكة تعتمد بشكل كبير على التقنيات المستوردة، وهو ما قد يزيد من التكاليف ويضعف قدرتها على تحقيق استقلالية تكنولوجية في هذا المجال.
في السياق الدولي، يواجه المغرب أيضا رهانا استراتيجيا يرتبط بعلاقاته التجارية مع الاتحاد الأوروبي، الشريك التجاري الأول للمملكة، مع توجه الاتحاد الأوروبي نحو تحقيق الحياد الكربوني واعتماد معايير بيئية صارمة على الواردات، أصبح من الضروري على المغرب تسريع تحوله الطاقي وضمان أن يكون اقتصاده متوافقا مع هذه المتطلبات لضمان استمرار نفاذ منتجاته إلى الأسواق الأوروبية.
أزمة المياه في المغرب: تحديات الاستدامة والاستراتيجيات المستقبلية لتحقيق الأمن المائي
يواجه المغرب أزمة مياه حادة تعد من بين أكبر التحديات البيئية والاقتصادية التي تهدد استدامة نموه، مع نصيب فردي لا يتجاوز 600 متر مكعب سنويا من المياه، مقارنة بالحد الأدنى العالمي البالغ 1000 متر مكعب، حيث يصنف المغرب ضمن البلدان التي تعاني من الإجهاد المائي، وتعود هذه الأزمة إلى شح الموارد المائية نتيجة تغير أنماط هطول الأمطار، الاستغلال المفرط للمياه الجوفية، وتزايد الطلب بفعل النمو السكاني، ويفاقم ذلك تأثير الفلاحة على الموارد المائية، حيث يستهلك هذه القطاع حوالي 80 % من إجمالي المياه المتاحة، ما يجعلها محورا رئيسيا في أي استراتيجية لتحقيق الأمن المائي، يحث يتطلب الأمر مراجعة واعية للاستراتيجيات الفلاحية الوطنية بما يتوافق مع هذه المتغيرات الضاغطة.
في هذا السياق، أطلق المغرب الاستراتيجية الوطنية للماء (2020-2050) لمواجهة التحديات المتزايدة وضمان الأمن المائي من خلال إدارة الموارد بكفاءة. تعتمد هذه الاستراتيجية على بناء المزيد من السدود إلى جانب تحسين إدارة السدود القائمة، حيث يمتلك المغرب حاليا أكثر من 149سدا كبيرا، كما تسعى إلى تعزيز تعبئة الموارد المائية لتلبية احتياجات القطاعات الحيوية، بما في ذلك الفلاحة، التي تعد من أعمدة الاقتصاد الوطني.
وتعد تحلية مياه البحر خيارا استراتيجيا لمواجهة هذه التحديات، حيث يمتلك المغرب حاليا 14 محطة تحلية توفر حوالي 192 مليون متر مكعب سنويا، وتعزز هذه الجهود بمشاريع جديدة مثل محطة الدار البيضاء الكبرى التي ستوفر مياه الشرب لأكثر من 5 ملايين نسمة، ومحطة تحلية مياه الداخلة الموجهة لدعم الزراعة وتلبية احتياجات السكان بحلول عام 2030، حيث يسعى المغرب لإنتاج 1.7 مليار متر مكعب من المياه المحلاة سنويا، مما يساهم في تخفيف الضغط على الموارد المائية التقليدية.
كما أطلق المغرب مشاريع استراتيجية للربط بين الأحواض المائية بهدف تعزيز الأمن المائي وضمان توزيع أكثر عدالة وكفاءة للموارد المائية المتاحة، ويعد مشروع الربط المائي بين حوض سبو وحوض أبي رقراق من أبرز هذه المبادرات، حيث يهدف إلى تحويل فائض المياه من المناطق الشمالية، الغنية بالموارد المائية، إلى المناطق الوسطى، التي تعاني من نقص حاد نتيجة الجفاف المتكرر وارتفاع الطلب.
تمثل هذه المشاريع ركيزة أساسية في الاستراتيجية الوطنية للماء (2020-2050)، إذ تتيح تعبئة الموارد المائية بشكل مستدام ويضمن تلبية احتياجات السكان والقطاعات الاقتصادية الحيوية، وخاصة الفلاحة والصناعة، ويشمل المشروع إنشاء بنية تحتية متقدمة تشمل قنوات مائية ومحطات ضخ حديثة، تسهم في تقليل الفائض المائي وتعزيز مرونة النظام المائي الوطني في مواجهة التغيرات المناخية.
ومع ذلك، تواجه هذه الاستراتيجيات تحديات كبيرة، أبرزها التكلفة المرتفعة لإنجاز البنية التحتية المائية، وتأثير تغير المناخ على الموارد الطبيعية، بالإضافة إلى الفلاحة باعتبارها المستهلك الأكبر للمياه، تحتاج إلى إعادة هيكلة جذرية لتقليل استنزاف الموارد المائية، مع تعزيز التحول نحو أنماط إنتاج أكثر استدامة، كما يتطلب الأمر تكامل السياسات المائية والفلاحية لتحقيق كفاءة استخدام الموارد، مما يسهم في حماية الاقتصاد الوطني وضمان استدامة الأمن الغذائي والمائي على المدى الطويل.
ضرورة تحقيق التكامل بين الأمن المائي والطاقي لمواجهة تحديات المستقبل
في ظل التحديات المتصاعدة التي يواجهها المغرب في مجالي الماء والطاقة، بات من الواضح أن تحقيق الأمن المائي والطاقي لم يعد خيارا، بل ضرورة حتمية لضمان استدامة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فالتغيرات المناخية، الضغط المتزايد على الموارد، وتداعيات الأزمات العالمية تجعل من إدارة هذه الموارد بفعالية قضية استراتيجية تتطلب تكاملا بين السياسات الوطنية في مختلف القطاعات، وخصوصا الطاقة والفلاحة.
ورغم الخطوات المهمة التي قطعها المغرب من خلال استراتيجياته الطموحة مثل “الاستراتيجية الوطنية للماء (2020-2050)” و”عرض الهيدروجين الأخضر”، إلا أن الطريق نحو تحقيق الاستدامة لا يزال مليئا بالتحديات الهيكلية والتكنولوجية، لذلك، يبقى التركيز على تطوير البنية التحتية، تعزيز الشراكات الدولية، تحسين مناخ الاستثمار، وإعادة هيكلة القطاعات المستهلكة للمياه والطاقة، عناصر أساسية لتحقيق هذه الأهداف.
إن الالتزام المغربي بمسار التحول الطاقي وتحقيق الأمن المائي يظهر رؤية استراتيجية واعية بمخاطر الحاضر ومتطلبات المستقبل، ومع تضافر الجهود الوطنية والدولية، يمكن للمغرب أن يرسخ مكانته كفاعل إقليمي ودولي في مجال الاستدامة، بما يدعم طموحاته التنموية ويؤمن رفاهية أجياله القادمة.
الكاتب : علي الغنبوري - بتاريخ : 13/11/2024