المثقفون، والمعلّقون، والآخرون الحالمون
أحمد المديني
لا نبغي القيام هنا بأي عملية تفكيك أو تصنيف لواحدة من المراتب التي ينشغل علم الاجتماع الثقاقي الجدي بالبحث فيها، ورسم منحنيات تطورها تاريخيا وقيميا، وبالعلاقة مع الحقل الاجتماعي المتحول؛ إن ذلك مهم بلا أدنى شك، وإن كان يحتاج دائماً إلى تبرير، وأن لا يسقط في نزعة ثقافوية هاجسها النظرية وصنافاتها، أكثر من الموضوع ودلالاته. شأنٌ يتطلب بكل تأكيد احتياطاته المنهجية وسياقه التاريخي في كل حين، غير أنه، وفي نهاية التحليل، مرتبط بنَسق ومفاهيم محددة يمكن إجمالها في الوعي والنقد والالتزام والتنوير، وفي تعالق دائم مع شروط الواقع الموضوعية، ذلك الارتباط الذي يستمر متحكما في المرتبة رغم كل ما اعتراها ويتواصل من تبدّل على صعيدي الشكل والأداء؛ هكذا، فإن التقنوقراطي، مثلا، لن يكون بديلا عن المثقف التقليدي ولا التاريخي، وإنما هو في عرف ثقافة معينة إما تطوير له أو تنويع لصيغة براغماتية، أو إبدال عند الذين ظنوا أنهم أقبروا جميع الإيديولوجيات أو عجنوها في عولمة هجينة، أضحت بدورها إيديولوجيا مغشوشة .
ونحن لحقتنا عدوى التنظير في هذا الباب، انشغلنا به، لا أدري تعويضاً عما فات من ماضينا الصحيح والقوي في تجسيد موقف ملتزم ـ يسمى اليوم فاعل، وأهله(فاعلون) ـ أم لأن فينا من يعتقد أن المعرفة» المزعومة» لا ينبغي أن تختلط بالشعبوية، بالمثقفين الشعبويين، في زمن الزمرة المندمجة، أو كلّ طموحها الاندماج في القطيع الجديد. وقد لفت نظري، وأنا أفكر في حالنا، أن الذين استعرنا مقولاتهم، وصرنا عبيداً لنظرياتهم، وهم في مراتب شتى، لا ينسون أبدا النبع أو رأس الخيط.
أعطي مثالا، لقد انخرط المثقفون في إيطاليا في معركة مواجهة استبداد برلسكوني بكل ما أوتوا من شجاعة وشرف: الكتاب، الأدباء، الباحثون، الجامعيون، الصحفيون، الفنانون في جميع تعابير الفن. لم ينأ أحد من الملتزمين بنفسه عن حُمّى ما يدور، لم يفت أومبرتو إيكو، مثلا، الباحث السيميائي والروائي الذي يستمد حبكاته من العصور الماضية، أن يجلد ظهر الفساد والمزورين في بلاده. كثير من هؤلاء المثقفين ليسوا شيوعيين رضعوا حليب نظرية غرامشي عن «المثقف العضوي» ولا بالضرورة من أنصار رومانو برودي الذي قاد لائحة أحزاب اليسار، وإنما أبناء ثقافة التنوير الغربية الإنسانية، وكما وقف آباؤهم ضد النازية والفاشية عرفوا أن حرية التفكير والتعبير، والعيش بكرامة، والدفاع عن الديموقراطية والتعددية، من الالتزامات المحددة لهوية المثقف، ولحماية مجتمعهم من السقوط في براثن ماض شرس؛ التزامات سابقة على رطانات يحلو لمثقفين بلا قضية أن يلوكوها في الفراغ.
هو التزام تاريخي، أي ليس ابن لحظة ظرفية، وهذه نخبة مستنيرة لا تتجاوب مع الأحداث بطريقة موسمية، انتهازية، ويقال برغماتية، ليست نخبة مواسم، بل تستبقها، وترتاد، كما لا تنتظر أن يفشل الآخرون كي ترفع صوتها وتلمّ شتاتها مخافة غرق المركب كي لا تغرق فيه. هي نخبة خلاّقة لا تكتفي بالوصف والتصنيف، بوضع علامات النجاح أو الإخفاق على المشاريع وممارسات هذه الفئة أو ذاك التنظيم. وإن فعلت فهي مؤهلة بشرعية أنها، أولا، دائمة الوعي واليقظة والنقد منهج إيديولوجي ومعرفي في آن، لا خبط كلام للتشنيع وإثبات الذات بإعطاء دروس بحجاج مفاهيمي ركيك؛ وثانيا، هو موقف متأصل وتاريخي، بمعنى أنه يندرج في خط متسلسل ذي مرجعيات وما ينفك ينمو ويتطور بدينامية بعلاقة مع المجتمع والشروط السياسية والاقتصادية لا بالخضوع لها والتكيف معها. لنقل بصريح العبارة، إن وعي النخبة الصحيح لا يكون بصورة رد وتموقع آخر بعد أن تكون إما فشلت في ضبط برنامج لتصور ومبادئ نظرية وتنفيذها، هي مالكة الحقيقة ولسان الديموقراطية، رغم أنها يمكن أن تسكت دهرا وتستيقظ فجأة لتستغفل، كأن ذاكرة الناس في سبات، تسعى لاكتساب صك براءة بعد أن جربت حظها مع(سمك القرش)ـ (والمعنى مبثوث في المسرحية بالعنوان ذاته (1978) للروائي المغربي يوسف فاضل) ـ أوْلَمَ لها وتغذت من مائدته وقتا طويلا وحين تكرشت وانتفخت منها الأوداج، وبدأت تقول(أنا)و(نعتقد) لم تنتبه أنها صارت تعوي وتتبجح من جوف بطنُه واسع بطول بلاد وأن فات الميعاد، ولا حاجة لوعيها الشقي قد انتهى المزاد!
طبعا، اسمعيني يا جارة، أصابها الصمم عن سماع ما يجري حولها، فإما دفنتْ رأسها في رمال ماض صار عندها منجما تغْنيها» ُدرَرُه» عن» سنتمات» الحاضر، أو انشدّت إلى الغرب الغني بالأحداث والتيارات تقرؤه به وتفكر فيه، ولا بأس أن تفلسفه. أغلب حديث أو خطاب الحداثة في المجتمع الثقافي العربي ضربٌ من التعليق الفائض عن حداثة الآخر، وحواشٍ لا يَعتدّ بها الأصل، طالما هي تعمل بمقولات ومناهج سرعان ما يتجاوزها ليقرأ نفسه كما لا يستطيع غيره أن ينوب عنه في قراءتها. مثقفون كثيرهم لا ينتجون معرفتهم، ولا يرتبطون بالسياق المركّب لمجتمعاتهم، هم معِّلقون على خبرة ُتقدم لهم سلفا تسوّغ تقارير للهيئات الأجنبية تدغدغ ما تريده سلفا، ولأنه مرتبط بترسيمتها وأفقها فإنه يعتبر نفسه في قلب العصر، الحداثة، أولسنا في زمن العولمة ؟!.وهكذا فهم معلَّقون، مرة عن طيب خاطر ومرات بألف حساب. فهل استقلنا من واقعنا، لا نفع لنا بما يضيء أو يظلم من حياة شعبه، الذي هو شعبنا، أم يكفي بعضنا زهواً إعلان انتسابه إلى «وليمة المجتمع المدني» أو إلى عُصاب الكلمات الكبيرة، وسعار النعرات، ليثبت جدارة الانتماء إلى الوطن. لست ملقّنَ دروس، لكن صفاقة الفراغ ورغبة تفريغ زمننا من كل قيمه، والانسحاب من تاريخه، وعرض ما تبقى منا فيه نماذج فولكلورية وأدوات سخرة؛ هذا كله وسواه أكبر من أن يطاق، ولنتركه بضاعة لدى جمهرة الذين يريدون احتراف تعليق مصير بلد بأكمله: تراثه، نضاله، أحزابه، ثقافته، لغته، وطموحه بحبل تلك المشاريع والمقاولات.
لا بأس يبقى الآخرون. لا بأس، إنهم الحالمون، الواهمون. فيهم الشعراء؛ مُلَوِّنو خدّ السماء بزعفران الخيال؛ الفلاسفة الملتفون بعباءة المعنى يدقّ الأرض، لا يحفل بأهل الترويج العابرين؛ الأيدي وهي تفرك حَبّ السنبلة يُصبّحها قرصُ الشمس ويُمسّيها كَرز المغيب؛ يوم تسودّ الدنيا وتربدّ الوجوه يتيه الحالمون تشعشع من عيونهم كلمات الأمل. الحلم ليس هو الأضغاث، ولا هو تعويض عن العدم، بل انعكاس الغائب على شفافية المرئي، كان محالا ويغدو طاقة الخيال، هذا الضبط، خيال لا يطال عندما تكمل دورة الحساب والمعادلات والصفقات، تلتحق إن استطاعت به أعمارنا الصغيرة، فنحافظ قليلا على أرواحنا، وكيف نشرب من العين بكفّ القمر، ولا نقبل الفطام من الحُب ونَمتحن الكلمات كل شروق، كلمات الأدب والسياسة والحب، والأسواق أيضا، أما زالت تفتح أمامنا أبواب العالم المغلقة، فإن كفّت عن ذلك فعلينا أن نحذر حينئذ، فقد سرقها « البرابرة» وهذه أخطر مؤامرة على الحلم…
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 30/06/2021