المسألة الثقافية في بلادنا، بين الاتصال والانفصال

  أحمد المديني

04

المسألة لغةً في القواميس، ج مسائل، وهي مصدر ميمي من سأل، وتعني قضية، أو مشكلة، أو موضوعا للنظر والبحث. وقولُنا المسألة الثقافية، أننا نربطها بموضوع محدد هو الثقافة. غير أن هذا الزّوج المكوَّنَ من حدّين ومن موصوف وصفة يبقى ناقصَ المعنى بل عديمَه إذا لم نَبسِط عناصره ونَصنع أرضيتَه ونكشف عن خلفياتِه المتعددة. ولا شك أوّلها الحاجة إلى تعريف الثقافة وتدقيق وحصر مكوناتها ومواضيعها ومجالها وغاياتها والأطراف المنتجة لها وأدوار هذه في مرافق الحياة كافة.حين نفرغ من ضبط هذه العناصر وتوضيحها بهذا القدر أو ذاك، فهي متفاوتة المعنى، نسبية، ولكونها اندرجت دائماً في سياقات تاريخية وموضوعية أشمل تُعطيها إلى جانب موادها الأصلية المشخِّصة لها والمُعبّرة عنها دلالاتِها وأبعادَها، وهي التي تنقُلها خصوصا من مرتبة البداهة وتحصيل الحاصل إلى صعيد السؤال؛ حينئذ فقط تدخل معانيها في صراع مع عصرها وتغدو مسألة.
عرف العرب في الماضي وعاشوا المسألة الاستعمارية وخضعوا لأوضاعها وتبعاتها، كجزء من الاحتكاك بل الاتصال العنيف مع الأجنبي، والمثاقف كذلك، منها فقدان السيادة، ما جعلهم يسألون لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون(شكيب أرسلان)، وينتقلون لطرح ثقافة زمنهم هم في وضع السؤال، والبحث منذئذ مع الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، عن كيفية تحقيق (النهضة) باختلاف الأطروحات والمفاهيم فكانت هذه هي المسألة، وما تزال لم تُحسم إلا شكلا لأن النكسات الفكرية التي تعيشها مجتمعاتُنا والردةُ التقليدانيةُ ضد التحديث تثبت الإخفاف، كما تثبته عقول تسكن مقولات أمس والحفر فيها حتى الملل في الأزمة بنزعة ثقافوية، وهذه أيضا مسألة.
وفي المغرب، وفي خضم الحركة الوطنية إبّان المرحلة الاستعمارية وجد روادُها أنفسَهم أمام تحديات وأسئلة محرجة، ما يخصّ في الصميم البنيات الذهنية والاجتماعية التقليدية ضمن هياكل الحكم والإدارة والتعليم، ووضع الحركة السلفية المغربية في أزمة قادتها إلى تلقيح بنيتها ولو من خارج بنفَس العصر وقوة الواقع المتبدل، فأصبحت وطنية، بمفهوم أكبر من سياسي وبمعان ثقافية اقترحها رمزان كبيران من مَشْرَبين مختلفين هما علال الفاسي (النقد الذاتي/1949) ومحمد حسن الوزاني، كله تحت هيمنة الأجنبي وروح المخزن المتخللة لدولة سلاليةancestrale.
عقب حركة الاستقلالات العربية والإفريقية سعت الحركات الوطنية والتنظيمات الوليدة من رحمها إلى إعطاء مضمون متحرّر سياسي اقتصادي اجتماعي وبتمثيل ديموقراطي لبلدانها أكبر من السيادة الشكلية التي مكّنت لطبقة تقليدية وأخرى وريثة للمستعمر، هذا المضمون ببرامجه الإيديولوجية ومفاهيمه واقتراحاته في الميادين كافة وبمضمون معرفي جوهرُه الصراع بين قديم وحديث كان المثقفون والكتاب المغاربة دعاتها ومنتجو خطابه وخططه ما مثّل مسألة ثقافية بامتياز.
وكان الطرح المعرفي قد نضج عند المفكرين والمثقفين، منذ نهاية الستينات وصُعُداً، بما يعلو وأعمق من ثنائية اليمين واليسار، والأصالة والمعاصرة، التي أمست قسمة وزوجا في ذمة التاريخ بحكم تأويل فكري متجدد وكذلك تغير الواقع الذي أنتجهما؛ فصدر الكتاب المشروع لعبد لله العروي الذي لم تبل أطروحاته: «الإيديولوجية العربية المعاصرة» (بالفرنسية، ماسبيرو، 1967) في منعطف ما سمي بالنكسة في مصر وبداية انهيار المشروع القومي وانقشاع كثير من الأوهام، يحمل في طياته جماع المسألة الثقافية في العالم العربي، ويفكك ويفرد مؤلفه لاحقا في سلسلة شرحه للمفاهيم: (الحرية، الدولة، التاريخ، الإسلام، الحداثة، الليبرالية) مضامينها وإشكالياتها.
في الفترة ذاتها كان الراحل محمد عابد الجابري يُعِدّ بتأمل وأناة مشروعه الفكري الكبير، بموازاة مع نضالع السياسي العتيد في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وامتداداً الاتحاد الاشتراكي بما أنه من واضعي التقرير الإيديولوجي للمؤتمر الاستثنائي للحزب (10ـ12 يناير 1975).
وقد دشن الجابري كما يعرف طلابه في الجامعات المغربية والعربية والأجنبية مشروعه بكتابة (نحن والتراث)(1980) اتجه لتشريح العقل العربي وتفكيك بنياته، فأصبح عمله أرضية لفهم وبناء ثقافة عربية بقطائع ومفاهيم من قلبها وهذه أكبر مسألة.
لم يكن العروي والجابري وحدهما في معركة التحديث، ولكني معنيٌّ بالمساهمة المغربية الصرف في بناء ثقافة كجزء من بناء الدولة الوطنية وتأمل معضلاتنا الداخلية في ظل تقاطبات فكرية وإيديولوجية، تقليدانية وحديثة، محافظة وليبرالية أو تقدمية، وكان للكُتاب موقعٌ مركزي في قلب الصراع الفكري وصنع الثقافة البديل في ما يكتبون أولا، قصصا قصيرة ورواية وشعرا ولنا أعلام تيجان عند رحمة لله، ومن خلال المعارك الحاسمة التي خاضوها في إطار اتحاد كتاب المغرب في الزمن الصعب (أهم مثال له مؤتمر مدارس محمد الخامس 1974) انتصرنا فيه للثقافة المستنيرة في وجه كتاب الدواوين في صف رجعي سياسيا وفكريا) لم نكن بوقا ولا الصدى الحاكي، بل لسان ضمير ووعي الكتاب بيقظة وفهم أن التزامهم صميم ومبرر كتابة ووجود، أي أنهم أدباء ومفكرون أصحاب قضية والالتزام عندهم هو الأنطولوجية فيه تتماهى ذاتيتهم، وأنا بفخر واحد من هذا الجيل أغلب ممثليه رحلوا، ولو قُدِّر للراحلين أن يعودوا مثل عيسى بن هشام بطل محمد إبراهيم المويلحي(1858ـ1930) وسألوا، بعيداً عن قيم زمنهم، وبحثوا عن أحوال الثقافة والمثقفين في الحاضر، بم يهتمون وأي قضايا يعتنقون، وولاؤهم لمن وإلى أين، ولو تساءلوا ما معنى أن تكون اليوم كاتبا، وأي دلالة للمثقف ووضع وأصناف المثقفين؛ لو ساروا بطاقية إخفاء، وبالعلن أيضا لن يهتم أحد بهم شأن نظرائهم أشباح اليوم وأصوات ضائعة في الفلاة، هم لن يقصدوا بناية في العاصمة في زنقة غاندي (أمست خلاءً وأهلها احتملوا/ أخنى عليها الذي أخنى على لُبد) لها ثقافتها تقصد مكاتب الدراسة الأجنبية لوضع استراتيجيتها واجتراح مسائلها، لأن المغرب منذ خمس وستين سنة بعد الاستقلال نساؤه عاقر وأبناؤه جاهلون مغفلون، أليس كذلك؟! فمن أين نأتي بالمثقفين؟ ولمن؟ ولماذا، أصلا؟ ربما عادوا إلى قبورهم بخُفي حنين، خشية أن يسمعوا الجميع يقول العام زين!
أتحفظ عن الحكم تاركا للجمهور حق الفهم والنظر بالعيان وأنا منه ويم الحق اتّسع الخرق على الراتق. أكتفي بالسؤال: ما هي مسألتنا الثقافية اليوم؟ وهذه مسألة. ولا أريد أن أنوب عن المويلحي، كان إصلاحياً، حسبي أستعير منه ما قال على لسان عيسى بن هشام:» حدثنا قال: رأيت في المنام كأني في صحراء» الإمام» أمشي بين القبور والرّجام في ليلة زهراء قمراء يستُر بياضَها نجوم خضراء.. وما زلت أسير وأتفكر وأجول وأتدبر»، وأحب أن أضيف لأرشد من قد يضيع في مسالك كلامي، اليوم وغدا، بأنه كما وصف حديث بن هشام: «حقيقةٌ متبرِّجة في ثوب الخيال، لا إنه خيال مسبوك في قالب الحقيقة»، والسلام.

الكاتب :   أحمد المديني - بتاريخ : 07/04/2021