الوطن ليس حلوى، والمثقفون عائدون

أحمد المديني

شهر كامل كان لهم، وإلى حدّ ما للجميع معهم، بمن فيهم الشريحة المسماة (المثقفون). لا خيار لك، كنت مع أو ضد، فهم ملؤوا الفضاء والأوقات كلها، والزمن حاضرَه ومستقبلَه، بما أن حديثهم ومشاريعهم، منظورةً وخفية، حقيقيةً ووهمية، واقعيةً وافتراضية، تتحول إلى خبز يومي يوضع على مائدتك، فإن وجدته يابسا عصِيّاً على المضغ أو لم تره، تخيّله وستراه للتو.
إنهم أهل السياسة لو تعلمون، وهل أفضل مضمارا وزمنا سياسيا من الانتخابات، أي هذه العملية التي يفترض أن الشعب يختار على مستوياتٍ من يمثله، بنقل صوته ومطالبه وحاجاته كي يدافع عنها ويشرّع لحقوقها والسهر على تحقيقها هؤلاء. شهر كامل خاضت فيه الأحزاب في المغرب أفرادا وهياكل غمارها، صالت فيها وجالت وأقامت الدنيا في انتظار أن تقعدها، ووعدت بجنات عدن وأنذرت خصومها بحشر أليم، منها من صار «كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد». لست معنيا لا بالرابحين ولا الخاسرين والمخدوعين، أيضا. أقول لهذه الفئات، الشطار منهم خاصة، لقد كنتم شاطرين إلى أبعد الحدود، لا لما غنمتم وتقاسمتم بينكم ضيزى كعكة بحجم وطن، فهذا من تدبير سميع عليم، بل لأنكم أقصيتم من صفوفكم وصفيتم من دمائكم كما مسحتم من الجينات من كانوا منذ عقود وحتى سنوات قريبة تشركونهم معكم ويشتركون، فئة من الناس موكول لها الفهم والتنظير وحمل الوعي والقيم والمبادئ (كذا) والعاقبة للمتقين.
لا أتكلم عن الهوى ولم يمسسني الخرف لأنسى ولا البطر لأمسح التاريخ هباءً بكمّ سترتي. كان المثقفون، ناس المعرفة بتعدد خبراتهم ومواقعهم وتسمياتهم، بما أن المثقف اسم حديث مستعار، عصب في الأمة سعى لإقالة عثرتها وإرساء أسس نهضة جديدة، واسترجاع سيادتها، فمواصلة تحريرها فكرا ومجتمعا واقتصادا وسياسة أيضا، بمشروع دولة وطنية ديموقراطية. في كيان الحركة الوطنية المغربية، وما تلا الاستقلال مباشرة لم نر هذا المكون طرفا ثانيا مضافا إلى المكون الإيديولوجي والسياسي المحض، بل واحدا حيث الموضوع الثقافي، متماه ولصيق رائدهما ولسانهما هو، قد يختلف الخطاب ويبقى الشيء الذي يقوله شخص، جماعة أو هيئة إلى شخص أو مجموع حول شيء ما ذاتُه حسب قواعد ومقتضيات خطابية. ولنا في أسلافنا الوطنيين الرواد علال الفاسي ومحمد حسن الوزاني ومحمد بن العربي العلوي، والجيل التالي من الديموقراطيين والمستنيرين آخر العنقود محمد عابد الجابري، خير مثال للحمة النضال بالمعنى النظيف وللفكر مؤصِّلا وعمادا لمشاريع التحرر الشامل، وقدوة حسنة. وفق هذا المفهوم تربّى جيل الستينات المخضرم، والسبعينات وسْم العنفوان والتغيير طرّأ. هي المدرسة التي ترعرعنا في أكنافها ولمّا نُفطم منها ولن، قدرا لا نبغي عنه بديلا، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالنسبة إلي بمثقفيه وحركته الطلابية والأدباء المنتمين إليه أو المقتنعين بمذهبه، كان لواءً لها، ما همّ أن يجحد هذا الوطاويط، فمن طبع الجاهل اللجوج الجحود؛ ولذلك أيضا لا أعيا من القول بأننا، أدباء مرحلتنا، لم نذهب إلى الالتزام كمن يقصد مكتبة ليقتني دليلا ليفهم الماركسية اللينينية بل إن هذا الالتزام تجسّد في أدبنا هوية لمرحلتنا.
لستُ ماضوياً، ولن أذكر بذلك المثقف العضوي كما لو أنه المثل الأعلى السرمدي، لا سيما أرى من بقاياه من لم يلطف الله بسترهم يُكْدُون، واحرّ قلباه، حتى آخر موائد الخليج يباعون يبيعون بعيون تصحصح الذاكرة بشروي نقير. ابن اليوم أنا رغم أني مثخن بجراح أمس، والنزف يقطر في فمي ومن كلِمي. ربما أحب أن أصهل الصّهلة الأخيرة، لا مسيحا ولا هاديا لأي صراط، كأن لم يبق صلبان تُحمل، ولا مثال أو قضية نعيش من أجلها «ونفتديها بالعزيز الأكرم» أو «كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا/ أنيس ولم يسمر بمكة سامر». لن أتأسّى صنيعَ الحرث بن مضاض الجهمي، بل أعاكسه أستعير منه فأقول: بما أنا كنا أهلَها، لن نترك لكم الوطن كعكة، ولا هو وزيعة بين عشائر (= شركات وشراكات) اطمئنوا المثقفون لا يأكلون الحلوى، عبر التاريخ مضغوا الحنظل لذلك لحمهم مرّ، هذا اختيار، مبدأ، عقيدة كاملة. أمس كانت جولة أهل السياسة، ومنهم من لا ينهيها إلا إذا أجهز على المبادئ والعقيدة الكاملة. واليوم آن لنا أن نستأنف الجولة حتى ولو توسلنا ببطولة وأسلحة ضونكيخوطية، ستبقى جولة.

سأسمع من‮ ‬يقهقه ويُسذِّجني،‮ ‬ها هو‮ ‬يعود إلى القواقع والقوالب القديمة المفرغة،‮ ‬لقد مات المثقف،‮ ‬إنّا بالخبير،‮ ‬الخادم المطيع،‮ ‬بالأستاذ الباحث عن راتب وجاه استبدلناه،‮ ‬وفي‮ ‬التلفزيون أجلسناه،‮ ‬وبإعداد التقارير حتى عن زوجته في‮ ‬الفراش ابتذلناه،‮ ‬انظر طابور الانتظار طويل‮! ‬المثقف نموذج وعي،‮ ‬منهج نقد وموقف معارضة،‮ ‬ثلاثة أوضاع لا شأن لنا بها أو لتكن شأن من أراد له أن‮ ‬يصطف فيها،‮ ‬سيبقى معزولا‮ ‬يصيح في‮ ‬واد،‮ ‬بينما أصبحت أصوات الاتفاق مضمونة وتعدّينا نصاب الوفاق‮. ‬سيَعيَون وفي‮ ‬آخر المطاف‮ ‬يعودون إلينا بنهم واشتياق‮. ‬سأسمع أيضا،‮ ‬أفِق خفيف الظل‮ ‬يا هذا،‮ ‬مثقفك ذاك من عهد عاد،‮ ‬نحن سادة البلاد،‮ ‬وهو باد‮!‬
نعم،‮ ‬تغيرت أزمنة وانهارت إيديولوجيات،‮ ‬وتصدرت قوى ومصالح بثقافاتها المعلبة عالمنا،‮ ‬وأُفرغت مفاهيم من محتواها،‮ ‬وأنهى مفكرون التاريخ ثم‮ ‬يكتبون تاريخا آخر هجينا،‮ ‬فلا‮ ‬يصلح قراءة اليوم بنظارات أمس،‮ ‬لكن دعاة آخرين‮ ‬يريدون محو القراءة بعد أن استأجروا وهمّشوا القراء،‮ ‬وقد نجحوا إلى حد بعيد في‮ ‬سوق خاضعة لقانون العرض والطلب،‮ ‬خاصة بعد أن رأوا من المثقفين من أدخل‮ ‬غرامشي‮ ‬إلى بيت الطاعة وصيّروا ماركس ولينين وصلاح الدين أرانب ترعى العشب بدل الغضب،‮ ‬تنحني‮ ‬في‮ ‬مجالس الإدارات ودواوين الوزارات تطلب الرضوان والمغفرة‮. ‬هؤلاء ليسوا مثقفين،‮ ‬والمعنى أكبر وأشرف منهم‮. ‬أنا أعني‮ ‬الذين‮ ‬يشعرون أن دورهم لم‮ ‬ينته،‮ ‬وهم مزهوون بوقارهم،‮ ‬أقوياء بوعيهم،‮ ‬كبار بأسئلتهم،‮ ‬شرفاء بكبريائهم،‮ ‬جميع الأوقات جولاتهُم،‮ ‬وأبهاها لا وعود فيها،‮ ‬بلا بريق،‮ ‬هي‮ ‬ما بدأناه وهم الدليل والطريق‮. ‬أكبر من الربح والخسارة ومن رهانات البرامج وخطاطات النماذج مشروعهم وأفقهم‮. ‬ما زال الذين أرادوا تغيير المجتمع والبلاد والحياة طرّاً‮ ‬أحياء،‮ ‬ودفعوا الثمن أجسادا وعقولا،‮ ‬ولم تغيرهم هي‮ ‬كما‮ ‬يشمت بعض؛ كلاّ،‮ ‬ما زالوا قادرين على قول‮: ‬لا،‮ ‬قلها ولا تخف‮: ‬لا‮. ‬اليوم ودائما‮. ‬معارضة السياسي‮ ‬برنامج محدد،‮ ‬ومعارضتك أنت أبد وكينونة إذا انتزعا منك لم تعد أحدا‮. ‬قولوا‮: ‬لا،‮ ‬فقط،‮ ‬فهي‮ ‬تطرد نعم الاستسلام،‮ ‬وهي‮ ‬ترياق السأم‮. ‬كم مملٌّ‮ ‬وسمجٌ‮ ‬بلد ساسته،‮ ‬سكانه وأيامه متشابهة‮. ‬المثقفون وحدهم‮ ‬يصنعون الفرق‮. ‬إنهم عائدون‮.‬

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 13/10/2021