بأصوات متعددة .. اشتباكات القصة والصحافة

سعيد منتسب

في كل نص، كيفما كان نوعه، هناك شيء من كاتبه، رغم تنوع أشكال السرد. فالنص تعبير تلقائي عن كاتبه، حتى لو كان هذا الكاتب ساردا محايدا يحكي ما يراه أو يقرؤه بعينيه، وما يسمعه بأذنيه. هذا هو الإشكال الرئيس للقاص والصحافي. فالأول يسعى إلى إعلان انتمائه اللغوي والفني (التقني) والأجناسي إلى القصة، بينما يسعى الثاني إلى الالتزام بالحكاية، وأن يعيد بناءها تأسيسا على لغة خاصة خالية من البلاغة، وعلى سرد متميز يجعلها أكثر اخضرارا أمام القارئ.
وبتعبير آخر، فإننا في القصة نكون أمام قانون النص الذي يخفي معناه في غوره، بينما في الصحافة نكون أمام السرد الكاشف، أي ذلك السرد المحايد والدقيق والبارد الذي لا يهتم بالبلاغة الإبهارية والجمال اللفظي، بل يهتم بالتقشف لأن سبب وجوده يكمن أساسا في الإخبار والتثقيف والإمتاع المباشر بالموضوع. ولذلك، فهو ليس معنيا بالجماليات التي تتعلق ببناء النص، أو بالأفق المتحرك لتأويلاته ومرجعياته.
ومع ذلك، فإن كلا الصنفين: الصحافة (وأنا هنا أعني الصحافة السردية تحديدا) والقصة يرتكزان معا صوغ لغوي وفني متداخل، رغم أن المُتَبَدي ظاهريا هو أنهما يستخدمان أدوات تعبيرية مختلفة، وأساليب لغوية متباينة.. فالشكل، يقول بورخيس، جوهري وليس حيلة بلاغية.
وهنا ينبغي التمييز بين الصحافة السردية، وبين القصة كجنس أدبي مستقل. فالأولى تتضمن العناصر الحاسمة في الصحافة، منها أنها تحتوي على معلومات دقيقة ومدروسة جيدا، ومثيرة لاهتمام القارئ، كما أنها تتطلع إلى استقطاب فضول الناس، والعواطف البشرية، عبر المزج بين الريبورتاج وأسلوب الكتابة القصصية. أما الثانية، ونعني القصة الأدبية، فإنها تؤسس هويتها ومرجعيتها ودلالتها بالاعتماد على النص نفسه، أي على اللغة والمعرفة والبناء والتجريب.
وبهذا المعنى، فإذا كانت الصحافة تضبط وجودها على مجموعة من القواعد المهنية، ومنها ملاحقة الأخبار الطازجة وجمعها وتحليلها والتحقق من مصداقيتها قبل نشرها، فإن القصة تبني وجودها على خرق كل القواعد؛ فالقاص، والأديب عموما، ليس معنيا بحالة الاستنفار التي يعيشها الصحافي على نحو دائم حيال ما يجري في الساحة من أحداث ووقائع، بل إنه يعمل بهدوء خارج سلطة الزمن التي تؤطر عمل الصحافي. إنه غير مكلف بمهمة، وليس في منافسة مع أحد، ولا يبحث عن أي سبق صحافي، ولا يطارد الحوافز المادية. بل لديه الوقت الكافي للكتابة وإعادة الكتابة، إضافة وحذفا ومحوا وتجويدا، كما كان يفعل تولستوي وهيمنغواي وهوجو وبالزاك وماركيز وغيرهم من الكتاب الذين اشتغلوا بالصحافة إلى جانب اشتغالهم بالقصة والرواية..
ولا يكتب الصحافي حسب  هواه على الإطلاق، بل يلتزم بالسياسة التحريرية للصحيفة التي يعمل بها، أو ما يسمى عندنا بالخط التحريري. كما يلتزم بالقانون المنظم للمهنة، وبأخلاقياتها وقواعدها الصارمة. أما القاص، فدأبه أن يضع النص أمام المرايا (بصيغ الجمع)، أي تلك المرايا غير المعنية بعكس صورة حقيقية غير مشوهة أو مزيفة أو ممسوخة. بل إنها تستدعي عالما ينحو في جميع الاتجاهات. ليست هناك حدود فاصلة بين نص و آخر، أو بين المتلقي والمؤلف…إلخ. أي ليس هناك صورة واحدة تريد هذه القصة أن تعكسها، فهي تمنح نفسها كاملة لغة وروحا ومحتوى.
إن القصة بهذا المعنى، تشتغل على نفسها، أي أنها تشرك القارئ في كشف بعض غموضها وهواجسها الذاتية ورحلة انضمامها إلى هذا الجنس الأدبي، كما أنها تقدم تصورات عن لغتها وقارئها وفلسفتها وأحلامها، بل إنها في أحيان كثيرة تعمد في حماس شديد إلى إدخال القارئ في متاهات تخييلية، مما يمنحها انفتاحا وتنوعا وتعقيدا، أي تصبح مختبرا للتداخلات النصية وتحويلا كيميائيا لتقنيات كتابية شديدة التنوع، ثم إنها في بعض النماذج لا تخفي طموحها في تحقيق عملية نقدية للإمساك بالمعنى، وتقديم تفسير له، في الوقت الذي تدرك عجزها عن الإمساك بهذا المعنى، نظرا لتراكب عناصره وصعوبة اندماجه في نسق معرفي واحد.
وإذا كان الشيء الأهم في النص الصحافي هو المدلول أو المحتوى، فإن الشيء الأهم في النص القصصي هو الدال أو الشكل. ومع ذلك، فمن الاشتباكات التي قد تخلقها القصة توظيفُ لغة الصحافة الواضحة والبسيطة على نحو خادع من أجل استدراج القارئ والذهاب به إلى مكان آخر، بعيدا عن البيان والإفهام والحجاج والإقناع. فالقصة ملتقى للغات، وقد تستعير لغة المسرح أو الموسيقى أو السينما أو التشكيل. بينما الصحافة، لا يمكنها أن تنبني على الاستعارة والأليغوريا والمجاز، ولا على تخييل الوقائع واستدعاء الشخصيات المتخيلة، لأن هدفها هو « إيصال المعلومة بصيغة بسيطة بعيدة عن الإثارة والحدة»، وهو ما لم تستطع الصحافة السردية إدراكه حتى الآن. إذ يتبين أن صحافة السرد في أمريكا، على سبيل المثال، تسبب أحيانا ضررا للمتلقي، بتزويده بمعلومات خاطئة أو غير كاملة، مما ينتج عنه ردود أفعال متقلبة. فقد بين «جيم كارثي»، الكاتب في صحيفة «ناشيونال ريفيو أونلاين»، في مقال له، أن الصحافة السردية يمكنها أن تضر بالحقيقة، مستشهدا بما يعرف إعلاميا بحادثة فيرغسون، أي تلك الحادثة التي قُتل فيها مراهق أسود أعزل بسلاح شرطي أمريكي، حيث بين أن ما ظهر في «صحافة السرد»، كان فيه إصرار على أن الحادثة جاءت بسبب عنصرية رجل الشرطة، بينما لم تقتنع هيئة المحلفين التي رأت أن الشرطي بريء من هذه التهمة، استنادا إلى الأدلة وشهادات الشهود الذين كانوا بالقرب من الحادث، مما سبب صدمة للرأي العام، الذي لم يكن مستعدا لقرار هيئة المحلفين الذي بدا مخالفا لكل ما نقلته وسائل الإعلام السردية.
إن هذه الواقعة وغيرها تنبئ بأن السرد قد يقودُ كاتبه إلى مكان آخر، قريبا من الاختلاق، بعيدا عن الدقة والمصداقية التي يتطلبهما العمل الصحافي. فالصحافي، في هذا النوع من الصحافة، ينجرف وراء جمالية الأسلوب وشفافيته وانسيابيته، معتمدا على الوصف والسرد والحوار والحبكة الدرامية المتصاعدة، هلى حساب ما يسمى في لغة الصحافة «الهرم المقلوب» أو «الساعة الرملية». كما أن الصحافي بات يسعى، في المقام الأول، إلى صنع التشويق، وإلى أن يرتكز الريبورتاج أو «القصة الخبرية» على الثالوث التقليدي للقصة الفنية (البداية، العقدة، لحظة التنوير)، على أن تتصل أجزاؤها وتتماسك تماسكا عضويا.
وإذا كان القصة، كجنس تخييلي، لا تماثل الواقع في امتداداته، بل تحول ذاك الواقع الممتد إلى أجزاء وقطع، يتم تبئيرها وتركيبها بطرائق متعددة حسب إمكانات اللغة القصصية وأشكالها، فإن الصحافة السردية ليس بوسعها أيضا، رغم أنها تدعي ذلك، مسح كل هذه الامتدادات، مما يجعل التأطير الصحافي محدودا في المرئي أي في الحقل البصري وداخله، إلا أن ذلك لا يعني إنكارا لما يجري خارج الحقل البصري، الذي لا يظهر على مستوى اللغة، أي داخل الحدث القصصي المرئي، ولكنه يشتغل كمحدد من محددات متخيل المتلقي الذي يسهم المتلقي في استحضار هذا الخارج وتوظيفه نفسيا، وثقافيا.
وبمعنى أكثر وضوحا، فإن الصحافة السردية لا يمكنها أن تعكس الواقع بمعناه الكلي والمجرد، ذلك السرد، كما يقول جيرار جينيت، هو تمثيل لحدث أو مجموعة من الأحداث الحقيقية أو التخيلية من خلال اللغة التي تستغرق أشكال التواصل بشكل عام، سواء أكان شفهيا أو مكتوبا (تلفزيون، جرائد، سينما…). وبهذا المعنى، فاللغة لا يمكنها بأي وجه من الوجوه أن تحقق التمثيل التماثلي للواقع، سواء في الصحافة أو الأدب. وهنا نقف أمام اشتباك آخر بين الطرفين.

الكاتب : سعيد منتسب - بتاريخ : 24/05/2017