بأصوات متعددة: فرخة بس خلفت ديوك عشان يلعنوا أبوك

عماد الأصفر (*)

الأمهات كائنات مبدعة تحترف القلق، وتجيد صناعة الأشياء، بدءا من التطريز وإضافة الرائحة الشهية للخبز، ليستقر في الذاكرة مميزا عن خبز الغرباء، مرورا بزراعة الأخضر في كل آنية. الأمهات كائنات مبدعة في الصبر واحتمال الأذى، الأمهات نِمرات متحفزات لرد الأذى عن أولادهن. الأمهات آلهات صغيرة تصنع الطفولة وتحرسها وتنميها الى ان تصير رجولة، الأمهات كل ذلك وأكثر، الأمهات حزن مقيم على أشياء كثيرة، وإدارة عظيمة للموارد الشحيحة، سلاحهن حبٌ وزغرودة. تتشابه الأمهات كما يتشابه الشعور بالدفء بعد البرد، يتماثلن كأعمدة المنازل وسقوف غرف الحب، كظل الاشجار المعمرة، يلتقين على سيرة الاولاد وتوزيع الأدعية والبركات، ونسج الاماني على سجادة الصلوات. الحاجة فرحة رباح البرغوثي، أم عمر ، واحدة من هؤلاء العظيمات. لم تنل نصيبها من الاسم وظلت فرحتها مؤجلة. في مثل هذه الايام من عام 1978 أي قبل (39 عاما) حكم القضاء الاسرائيلي غير العادل بتاتا بالسجن المؤيد على كل من: طالب التوجيهي نائل وشقيقه الاكبر عمر وابن عمهما فخري، بعد أن رفضوا تقديم استعطاف للقاضي الجلاد. استدعى الحكم صراخ وعويل الأم، أو على الاقل دمعتها، لكن القدير ألهم فرحة ان تزغرد، فأحرقت دم القاضي وأشعلت نيران بطولة لن تنطفئ في نفوس الابطال الثلاثة، فوقف ثلاثتهم يردون على زغردوتها بنشيد: ما بنتحول، ما بنتحول، يا وطني المحتل، هذي طريقنا واخترناها، وعرة ونتحمل . أُفرج عن عمر غداة صفقة تبادل بعد 7 سنين، وأعيد اعتقاله مرات أخرى بعدها، وتحرر فخري ولكن بعد 30 عاما، وأما نائل فقد طال اعتقاله وطال معه انتظار الأم،…. كبرت الليمونة التي زرعتها باسمه وتعهدتها بالرعاية، وجالستها وتحدثت إليها بين كل زيارتين وبعد كل منع أمني من الزيارة، ….. شيدت الدار التي يفترض أن يسكنها ويتزوج بها الاسير بعد تحرره ….. تحولت غرفته القديمة الى متحف لنضالات وذكريات الحركة الأسيرة….. وصارت محجا للزوار والمتضامنين….. صارت الحاجة فرحة شاعرة أفراح وأتراح القرية…. وأصبحت كوبر المعروفة جدا أكبر وأشهر وباتت تُعرف باسمه. 33 عاما من الاسر لا يمكن تلخيصها، لا على جبهة السجن والسجين، ولا على جبهة الأم والأب والأخت، كتبت الزميلة ميرفت صادق عن هذه الفترة الطويلة على لسان حنان أخت الاسير ما نصه: “عند تنقلها من بيتها إلى بيت والدها مرورا ببيت شقيقها عمر، تتذكر حنان أصعب قصص الفراق “ليس موت أبي ومن بعده وفاة أمي… ولكن أيضا يوم عرسي بلا أخوين بجانبي”. وبين وفاة الأب في 2004 ووفاة الأم بعده بعام، سمع نائل أسيرين يتبادلان الأخبار، ويقول أحدهما للآخر “الرجل ذو البذلة الزرقاء والعصا الذي كان يأتي للزيارة دائما… مات”، عرف نائل أنه لن يرى والده بعد الآن. يقول عمر البرغوثي، في حديث قصير قبل اعتقاله الأخير، أن أمه الحاجة فرحة، زارته ونائل في مرة أخيرة قبل وفاتها على سرير الإسعاف ولنصف ساعة فقط في سجن عسقلان بعد منع استمر خمس سنوات.
ويكتب نائل عن حادثة الوداع، وكيف حث شقيقه على التماسك “كي لا يزيدوا أوجاع أمهم المحتضرة، وكي لا يشمت السجان”. وتحدث عن تقبيله لها من رأسها إلى قدميها، وعن هز رأسه بالاستجابة لكل وصاياها عن “الوحدة والتماسك والأخت والبلد والأهل..” وعن “درهم الشرف الذي هو أفضل من بيت مال”. قبل وفاتها وزعت الأم مصاغها الذهبي، وتركت لعروس نائل المنتظرة نصيبها، مع أغنية ظلت تهدهد بها صمتها وانتظارها، وتركتها “أمانة في أعناق نساء القرية” كي تُغنى في عرسه: في خاطري يا نائل يا دار تبنيها وعروس إلك يمة وأنا اللي أنقيها في خاطري يا نائل الحارة تمرقها وعروس إلك يمة أنا اللي أزوقها. تحرر نائل وتزوج من الاسيرة المحررة ايمان نافع والتي قضت عشر سنوات في الأسر، حاول استئناف ما فاته من حياة رغم الاقامة الجبرية التي فرضت عليه، إلا أن الاحتلال أعاد اعتقاله بعد عامين ونصف العام، وحكم عليه بالحبس 18 شهرا، وبعد انتهاء هذه الاشهر حكم عليه بالمؤبد من جديد. وجع القلب على فرحة ونائل وايمان، يذكرنا بعشرات الألاف مثلهم: أسرى، أمهات، آباء، زوجات وأبناء. من هؤلاء نستمد العزم، من نائل المحكوم بالمؤبد من جديد والذي نال رقما قياسيا في سنوات الاعتقال حسب موسوعة غينيس، والذي قرر وبعد أن بلغ الستين أن يبدأ دراسته الجامعية بالمراسلة من داخل السجن، ومن فرحة التي قلب الجندي الاسرائيلي الحاء في اسمها لتصبح خاء وناداها في يوم الزيارة: فرخة ، فرخة، فردت عليه: انا فرخة، بس خلفت ديوك، عشان يلعنوا أبوك.
(*) كاتب فلسطيني

الكاتب : عماد الأصفر (*) - بتاريخ : 11/05/2017