بالصدى :دفاعا عن المكتسبات الصحية
وحيد مبارك
يعي المنشغلون بقضايا الصحة العامة جيدا عمق ومدلول المقولة التي تفيد بأن أكبر “استثمارين” شهدهما مجال الصحة هما الماء الصالح للشرب واللقاحات، فالأول له صلة بالوقوف ضد استمرار انتشار أمراض لها علاقة بالماء الملوث، ومن بينها التيفويد والكوليرا وغيرهما، أما الثاني فقد ساهم في إنقاذ ملايين الأرواح والقضاء على العديد من الأمراض، إذ وبحسب دراسة لمنظمة الصحة العالمية، فإن اللقاحات مكّنت من إنقاذ 154 مليون حياة خلال الـ 50 سنة الأخيرة، بمعدل 6 أرواح في الدقيقة، أخذا بعين الاعتبار أن الفئة العريضة المعنية هي من الرضع، إذ أشارت الأرقام إلى أن الأمر يتعلق بـ 101 مليون رضيع .
اللقاحات، ورغم ما قد يقال هنا وهناك؛ خاصة ما رافق الجائحة الوبائية لفيروس كوفيد 19 وما بعدها؛ والذي قد يجد بعضه الأساس النسبي لذلك في سرعة الإعداد بسبب الوضعية الاستثنائية، وهو ما يستوجب نقاشا واضحا من طرف المختصين، فإن لقاحات كوفيد أنقذت الأرواح وأعادت دورة الحياة إلى طبيعتها في كل الدول، واللقاحات بشكل عام ساهمت في التقليص من معدلات وفيات الرضع والأطفال بنسبة 40 في المئة في العالم، وبحوالي 50 في المئة في القارة الإفريقية، بحسب الدراسات التي تم إنجازها في هذا الإطار، من خلال التحكم في أمراض بتبعات قاتلة، منها الدفتيريا، التهاب السحايا من نوع ألف، شلل الأطفال، الحمى الصفراء، الكزاز، الجدري والحصبة وغيرها.
لقد ظهرت أهمية اللقاحات في قدرتها على منح وضمان الوقاية للملقحين، وبالتالي تفادي الموت والإعاقات، وغيرها من التبعات المرضية، التي تتعدى كلفتها ما هو صحي إلى ما هو اقتصادي واجتماعي، وهو ما كان حافزا لكي يتوفر المغرب على برنامج وطني للتمنيع أواسط الثمانينات بقرار سياسي وسيادي، والذي أتى بعد الخطوات الأولى المتعلقة باللقاحات التي عرفتها بلادنا منذ سنة 1929. هذا البرنامج انخرطت كل مكونات الدولة في تنزيله، وهو ما ساهم في الرفع التدريجي من نسب التغطية التلقيحية، وشهد على مراحل إدراج لقاحات جديدة، كالتهاب الكبد من نوع “ب” سنة 1999، والهيموفيليس “ب” في 2007 ، ثم “البنوموكوك” و “الروتا” في 2010، فالجرعة الثانية ضد الحصبة والحميراء في 2014، وأخيرا اللقاح ضد سرطان عنق الرحم للفتيات، وغيرها من اللقاحات، التي كان لها الأثر الإيجابي على المشهد الصحي الوقائي في بلادنا.
واليوم، ونحن نعيش أزمات صحية أخرى، بعضها مرتبط بمتحورات فيروسية، والبعض الآخر بأمراض اعتقد الجميع أنه تم القطع معها والطي النهائي لصفحتها، يُطرح على كل المعنيين بالشأن الصحي، من وزارة وصية وحتى قطاعات أخرى، تحدي الحفاظ على ما تم تحقيقه من تراكم إيجابي وعدم هدر كل المجهود الذي تم بذله، للحفاظ على الصحة العامة ولضمان الوقاية الصحية للأجيال القادمة، وهو ما يعني كذلك إعادة النظر في عدد من القرارات وتحيينها وفقا للمتغيرات، ومن بينها السبب في عدم إدراج الجرعات التذكيرية في البرنامج الوطني للتمنيع، التي تتوجه عدد من الأسر نحو القطاع الخاص من أجل تمكين فلذات أكبادها منها، وعن سبب اقتصار اللقاحات على مراحل عمرية بعينها، في حين تغيب التوصيات الخاصة بالكبار بشكل كلّ، باستثناء ما يتعلق باللقاح ضد التهاب السحايا بالنسبة للمعتمرين والحجاج نموذجا، وهو ما تبين بشكل جليّ اليوم مع أزمة مرض الحصبة، خلافا لما تم القيام به في دول أخرى؟
لقد تابع الجميع كيف توقفت دورة الحياة الصحية والاقتصادية والاجتماعية وأصيبت بالشلل بسبب الجائحة الوبائية لفيروس كوفيد 19، وخرج مختلف الخبراء والمختصين في علوم الأوبئة للتأكيد على أن الجائحات ليست بالحدث المعزول إذ يمكن تسجيل حالات أخرى، الأمر الذي من المفروض أن يتطلب تعزيزا أكبر لسبل الرصد واليقظة الوبائية، وتتبع كل التفاصيل الدقيقة المرتبطة بما هو صحي داخليا وخارجيا، لتفادي كل طارئ غير مرغوب فيه، واتخاذ ما يلزم من تدابير في علاقة به، خاصة ونحن مقبلون على احتضان تظاهرتين مهمتين، وبالتالي فالتحدي المرتبط بالاستعداد لهما لا يرتبط بالبنيات التحتية وتجهيز الملاعب والطرقات وغيرها فقط، بل كذلك الرفع من القدرات الصحية، البشرية واللوجستيكية، وتوفير بيئة صحية سليمة، خالية من كل عدوى، وقادرة على التدخل والتكفل متى كانت هناك ضرورة لذلك.
الكاتب : وحيد مبارك - بتاريخ : 01/02/2025