بالصدى .. «مرسوم بنكي» لتدبير الصحة

وحيد مبارك

تعتبر الاستعانة بمكاتب لإنجاز دراسات وإعداد برامج مختلفة خطوة قد تكون صائبة أو خاطئة، حسب السياق والمضمون، ووضع السياسات والمخططات من طرف موظفين هو الآخر قد يقدّم قيمة مضافة كما قد تعتري المشاريع المنجزة بعض الاختلالات، لأن كل عمل مهما كانت طبيعته يجب أن يستمد ركائزه وقوته من خصوصيات المجال المعني بالدراسة، علميا وواقعيا، وأن يكون مستوعبا لكل الإكراهات والتحديات المطروحة، والسياسات المتدخلة فيه، وطبيعة البيئة المعنية بمواردها البشرية والتقنية وما إلى ذلك.
وإذا كانت وزارة الصحة والحماية الاجتماعية قد أعدّت مؤخرا مشروع مرسوم يتعلق بتحديد اختصاصاتها وتنظيمها، فإن مضمون ما تم إنجازه يتطلب وقفة لقراءة ولو الحدّ الأدنى من بعض التفاصيل التي من شأنها أن تحدد معالم هذا القطاع مستقبلا ولمدة «غير محدودة». إن إطلالة بسيطة على مشروع المرسوم تمكّن المتتبع للشأن الصحي من الوقوف على بعض الإيجابيات المستحب تنزيلها، لكن بالمقابل تُطرح علامات استفهام عديدة بخصوص نقاط التماس في علاقة بالمجموعات الصحية الترابية، وكذا مع هيئات للحكامة، كما هو الحال بالنسبة لموقع الهيئة العليا للصحة بالنظر إلى عدد من المهام التي جاء المشروع ليرّسخها في يد الوزارة، الأمر الذي لم يكن واردا طيلة مسار النقاشات المرتبطة بإحداث هذه الهيئة والأدوار التي تم التأكيد على أن تكون من اختصاصها.
الهيئة العليا للصحة التي يصفها البعض بـ «المولود الخديج» ويرى البعض الآخر بأنها ستكون مجرد آلية شكلية، استحضارا لظروف ولادتها «الصعبة» والعثرات التي اعترضتها، ولا أدلّ على ذلك ما يرتبط بمكتب رئيسها وما يهم الموظفين، وما يشمل خطة وضع اليد عليها «سياسيا»، جاء مشروع المرسوم هذا، بحسب عدد من المتتبعين، ليجعلها في نهاية المطاف «معزولة» و «محدودة» الأثر والتأثير. وإلى جانب يرى المنتقدون بأن «الفلسفة» التي تحكمت في إعداد الدراسة كانت بعيدة بعدا تاما عن القطاع، بل أن هناك من وصفها بكونها جاءت برؤية تنهل مما هو «بنكي»، وهو ما تعكسه عدد من المواد إلى جانب الشق المتعلق بالمديريات العامة، التي يبقى إحداثها مهما لكن وفقا لأي معيار، ولأي غاية، وما هو حدود مجالها؟
يعلم المتتبعون كيف أن المديريات العامة هي تنظيم حيوي في بعض الوزارات بعينها، لها موقعها ووظائفها الممتدة حسب الضرورة، لكن في مشروع المرسوم الجديد، يتبين على أن الدافع لإحداث مديريات عامة له سقف مختلف وغايات قد تكون مختلفة، فإذا كان مجال الرقمنة وما يرتبط بأنظمة المعلوميات شاسعا ويتطلب عملا ليس بالهيّن، فإن الاكتفاء في المقابل بمديرية للموارد البشرية يطرح أكثر من علامة استفهام، حسب تصنيف الأولويات والأدوار، ونفس الشيء بالنسبة لتغييب مديرية خاصة بالقطاع الخاص، التي ظلت مطلبا للفاعلين في هذا المجال الذي يعتبر مكمّلا أساسيا في إطار الشراكة بين القطاعين لتجويد المنظومة الصحية، استحضارا لمدى حضوره اليوم في المشهد وطبيعة امتداداته التي تتسع يوما عن يوم، خاصة بعد تفعيل قرار تعميم التغطية الصحية.
وبمناسبة إعداد مشروع هذا المرسوم، الذي أشار إلى المعاهد العليا للمهن التمريضية وتقنيات الصحة في المادة 23 الخاصة بمديرية الموارد البشرية، وبما أن تقييم كل السياسات السابقة يقف عند إشكال الحكامة والتدبير غير المستحضر لـ «التحديات اللاحقة»، فإن نقاشا مفتوحا بخصوص الموقع المستقبلي لهاته المعاهد يبقى ضروريا لتجويد عملها وتطويره الرفع من مردوديتها، مع تمكينها من آليات الاشتغال الأساسية، المادية منها والتقنية، وبالتالي ما هي الخطوات التي يمكن قطعها مع تحديدها في الزمن لأجل أن تصبح كليات للعلوم التمريضية وعلوم الصحة، نموذجا، وأن تكون تابعة للجامعات على غرار كليات الطب والصيدلة، على غرار ما هو معمول به في مصر ولبنان والعديد من الدول الأخرى.
لقد خلقت السياسات والبرامج والمخططات المرتبطة بالزمن الحكومي، وباللون السياسي لمدبري قطاع الصحة، على مرّ السنوات الفارطة العديد من الإشكالات التي حالت دون تنفيذ ما تم تسطيره أو على الأقل ضمان استمراريته في الشروع فيه، وكان من تداعيات ذلك تكريس الفوارق الصحية مجاليا وترتب عنه المزيد من الأعطاب التي حدّت من ولوج كل المواطنين إلى الخدمات الصحية على قدم المساواة ورفعت من حجم الإكراهات والتحديات، وهو ما يتطلب اليوم في ظل ورش الإصلاح العميق ومنح نفس جديد للمنظوم الصحية، استحضاره بشكل مسؤول، وإعداد القوانين والمراسيم المتجانسة، والابتعاد عن كل نظرة تحكمي لقطاع هو مقياس لمدى التنزيل السليم للحماية الاجتماعية من عدمه.

الكاتب : وحيد مبارك - بتاريخ : 03/07/2025