حدودُ الكلام، وحدودُ البلاد، ولا حدودُ الأدب؛ اعتِقونا!

أحمد المديني
1
ينفتح فصل الصيف على آفاقٍ لا تتيحها الفصول الأخرى، نغدو فيها مكبّلين ببرامجَ وجداولَ وقيودٍ من أنواع، في العمل واللقاءات والتنقل والمأكل والملبس وبين اليقظة والنوم، حتى لا مزيد. نحب جميعا في هذا الفصل أن ننطلق بعيداً، أن نغادر، أن نتخلّى عن أنفسنا أجساداً، وربما أرواحا بالية، لنسلِخ عنا جلدا قديما أو تبالى، ونقتحم ما بعد بجسد فتيٍّ وحماسٍ يكون قد فتّر. أكثرُ وأهمُّ فعل يستعمله الفرنسيون في شهري مايو ويونيو هو فعل Partir. حيثما جلستَ ومع من التقيتَ وأينما ولّيت وجهك لا بد أنك ستسمع هذا الفعل مستخدماً صرفا في أزمنة مختلفة، بمعنى أنه يستوعب الماضي والحاضر والمستقبل، شاغل الناس يسبِقون النُّحاة، وما قبله وبعده من أفعال وأوضاع كأنها محشورة في زمن مؤقت، زمنِ قيد العمل لا فكاك منه.
2
حين كنا تلاميذ في مدارس الطفولة، تذكرون جميعا، أمتعُ أوقات السنة هي المؤرّخةُ عشية نهايةِ فصل دراسي وأعظمها يوم ختام السنة الدراسية وكان يوما مشهوداً كخَتْم القرآن عند الطلبة القدامى وحفل (الحذقة) التي تتلوه. عند باب المدرسة نشنّ مظاهرة عارمة تشق فيها الأصوات عنان فضاء ممنوع فيه عادةً الصراخ ويختلط تحرّشُ البنين بنزَق البنات، وإذ تعمل بعض الأيدي في تمزيق الدفاتر ونثر الأوراق جزافاً والتلويح بها في الهواء، ينخرط المتظاهرون في نشيد تلقائي واحد بنبرة زعيق حادّ يصمّ الآذان كالنعيق، عنوانُه تذكرون: التّحريرة! ياه، أيّ خلاص هذا ويا لها أوهامُ المعلمين والمربيّن ظنوا يَحشون رؤوسنا بالمعرفة وينهوننا عن سوء سواء السبيل، بينما إحساسنا أنّا أسرى وعبيد؛ ثمة إذن خطأ ما فيهم أو فينا.
3
لكن، ماذا كنا نفعل بهذه(التّحريرة)، بحريةٍ مزعومةٍ توهبُ لنا مؤقتة، أيامُها تمتد ثلاثةَ أشهر لنعود بعدها ونحن لا علم لنا ولا لآبائنا بخطاب الفقيه القانوني LA BOETIEعن العبودية الطّوعية، لنسلّم مقاديرنا بمراقبة صارمة لأولياء أمورنا إلى سجّانينا الذين يهيؤوننا للمستقبل الزاهر (كذا)؟ تتفاوت الأجوبة بين الإمكانات المادية والاستعدادات الفردية والأمزجة، بين أبناء الحضر والمضر، إنما لا مبالغة إن قلت إن الفراغ الشاسع وقلةَ ذاتِ اليوم والحيلةِ والعجزَ عن الحصول على مكاسب بسيطة، عند أقوام آخرين بدئية أولية ويراها غيرُهم رفاهاً، هو ما كانت تصطدم به غالبا حريةٌ ملتبسةٌ ومجردة، فكل ما لا يتجسد مادياً ويتحقق في الواقع تناله عِياناً هو تجريدٌ واستعارةٌ في قصيدة، لذا كبُرت أجيالٌ تحلم بالحرية وتموت من أجلها ولا تُطال.
4
أمس واليوم، ولِدنا وعشنا وما زلنا في مجتمع مسيّجٍ بالحدود، لا نعرف ونفهم الفرق بين نعم ولا إلا علينا يُملى. سأترك جانباً الحرام والحلال مما في حُكم المنزل والمقدس، فلا طاقة لي بهذا الباب، وأتذكر قاموس الصبا والفتوة والشباب، لو عدت إليه سأجد الممنوع من الكلمات فيه أغزرَ من المباح، وسأتذكر أننا تحايلنا على المنع وفظاظة النّهي وشططَ الأمر، بعد كبح جِماح النفس وكبتِ العواطف وإطفاءِ حرائق المشاعر والشهوات والكسر القهري والذاتي للرغبات والإرادات، بلعبة مداراة ومداورة القاموس واستعمال شِفرةٍ ملغزةٍ وتعابير الحركات، وحدنا تعلمنا فنّ الميم بلا معاهد، وحدنا مثّلنا أدوار السينما الصامتة، وإن تكلمنا فبأمر ومقدار. من الذي يملك الحق ليعطيك الكلام أو يمنعه، ليسمح أن تقول أحبّ جهاراً لمحبوب أو يقطعه؟!
5
جاء في (مختار الصحاح) في مادة حَد َّما يلي: الحَدُّ الحاجزُ بين الشيئين. وحدُّ الشيء منتهاه. والحَدُّ المنع، ومنه قيل للبواب (حدَّاد) وللسّجّان، إما لأنه يمنع من الخروج أو لأنه يعالج الحديد من القيود. و(حدَّه) أقام عليه الحَدّ من باب ردّ أيضا وإنما سُمِّيَ حدّا لأنه يمنع عن المعاودة. لجميع الأوطان حدود، جغرافية مرسّمة، تفصل بينها وغيرها. البلدان العربية طبعا منها، لكن لهذه داخلها عشرات الحدود، وأنت تقضي عمركَ كلَّه، رغم ومع وجود قوانين وضوابط مرعية، تناور وتتحايل كي تجتاز، ولا تخرق، في كل مرة بسلام خَطّا فليس مُسلَّماً سلفاً اجتيازُه. هي تلاحقك وترافقك من المهد إلى اللحد، وتحمل من المرجعيات والأسماء والعلامات والنعوت شتى، سيف ديموقليس مُصلَت وفي كل مرة أنت مطالب بإثبات حسن السيرة.
6
علمتَ أو جهلت، أنت ملاحقٌ بالحدود، تتبعك كظلك في كل خطوة تخطوها، أو أثناء عبورك الفعلي الحقيقي لها لتخرج من الوطن وتتجه إلى بلد آخر. هذا ما فطّننا إليه صديقنا عزيز الذي خبِرها جيدا وهو خرّيج أعتى السجون. كنا جلوساً في مقهى مسالمين فقد ودّعنا من قديم العنف في الدماغ والعضلات واستسلمنا للزهايمر وجدناه أفضل شفاءٍ لأمراض الذاكرة تخلّصنا منها. كنا جلوساً ووقف علينا صديقٌ كأنه عائد من سورة أهل الكهف وهو مكفهرٌّ يرغي ويزبد ويلعن الداخل والخارج وفوق وتحت. سأله البروفيسور عزيز ما بك؟ انتفض، كأنك لا تعلم، حيثما وكلما وضعتُ طلبا لاستخراج وثيقة أو قضاء غرض رسمي خرجوا لي جِنّا من تحت الأرض. ردّ عليه عزيز بفتور، لم أكن أعرف أنك ساذج، معهم حق، فأنت عندك (الوسخ) وسيتبعك!
7
حين تدفع جوازك في ذلك البلد لشباك شرطي الحدود سويرتي مولانا. يختلس نظرة إليك ببرود ولا تُخفي ملامحُه الغضب. أنت كل شيء عند نفسك وتَقبل أن تصبح لا أحد أمامه. عموما لا يعنيه شأنك. الآلة هي التي ستقرر مصيرك، أن تعبر الحدود أو تعود لتتأكد من نظرية عزيز عن الوسخ الذي لا يزول. يحدث هذا دائما منذ عقود. تتوالى الحِقبُ والنظرةُ هي ذاتُها إليك من خلف الشباك، تُتوارثُ من جيل لجيل. لكن ما لا تفهمه هو لماذا لا ترِقّ نظرته ولو اصطناعاً وتفضح عيناه تهمةً تسبقهما صكُّها الغضب وطالما لم ينزل الخَتم فوق أيّ جواز أنت متهمٌحتى ينزل. لذلك ترى شعب ذلك البلد رغم أنه لا يفهم مقدار حبةِ خردلٍ في الشك الديكارتي لا ييقن من شيء إلا أنه مسيّر لا مخيّر ولا يعنيه مفهوم الإرادة عند شوبنهاور، فكلّ شيء بمشية لله.
8
ينفتح الصيف فأتحرر من كثير قيود لأخترق الحدود ولو بالكلمات. طريقتي أني أعود لقراءة الكلاسيكيات، آخرها لأمر ما «les Confessions» (اعترافات) (1782) لجان جاك روسو(1712ـ1778). في مطلع الكتاب الأول منها أقرأ الفقرة التالية [بترجمتي]:» أنا وحدي. أحس بقلبي وأعرف الناس. لست شبيهاً بأي واحد ممن عرفت. وأقول بجرأة بأني صُنعت مختلفاً تماما عن باقي الوجود. إن لم أكن أفضل فأنا آخر على الأقل. وإذا ما كسرت الطبيعة القالبَ الذي صبتني فيه، فهذا ما لا يمكن الحكم عليه إلا بعد قراءتي». ثم يقول روسو بعدها تقريبا ما يشاء، حفيده سارتر في أفضل كتاب أدبي له» les Mots» (الكلمات) (1967) سيُتم قول الذات، وآني أرنو (1940ـ) تبلغ به مداه، كلهم خرقوا الحدود، فلا أدب يكتب لا إبداع بحدود؛ اعتقونا!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 07/09/2022