حفظ النفس وبناء الوطن ..وما بعد القضاء على الوباء

مصطفى المتوكل الساحلي

خلقنا لله وبث فينا الروح والحياة، ومن كمال عدله أن جعل الإنسان عاقلا وألهم النفس البشرية فجورها وتقواها:
– فجورها بكل أشكاله ومنه الذي يمتد للإضرار بالناس أجمعين وبالمخلوقات، ويفسد ويعطل كل ما هو جميل ومتنور ..
-وتقواها بكل ما يقوم به الفرد والجماعة من أعمال صالحة وخيرة يعم أثرها الإنسان وكل الوجود الموضوعي لنكون مع الآخرين مقيمين للعدل والسلام والمحبة، ورحماء وكرماء وساعين لإعمار الأرض وبناء الحضارة…
وعرفنا سبحانه وتعالى على مخلوقاته وعلمنا الأسماء كلها، وتواصل معنا بتبليغ رسالاته لأنبيائه ورسله، واعتبر الرسول محمد (ص) العلماء ورثة الأنبياء، وقال تعالى في المؤمنين / والذين أوتوا العلم : ( يَرْفَعُ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والذِينَ أُوتوا العِلْمَ دَرجاتٍ) (سورة المجادلة .)، ولاشك أن العلماء ليسوا فقط المتخصصين في علوم الدين بل الذين يرجع لهم الفضل الكبير بعد الله في أن يجدوا العلاج للأمراض والعلل والأوبئة ،ويخترعوا ويصنعوا ويطوروا كل التكنولوجيات الحديثة والصناعات المختلفة التي جعلت العالم متقدما أكثر، يتطور بشكل مطرد ، ويستطيعون التغلب على العديد من الإكراهات والمعيقات، وبإمكانهم الاستجابة للمتطلبات المختلفة المتجددة ، إن وضع وبنى السياسيون والحكومات كل ذلك بميزان العدل والتكافؤ …
إن رسالة الإسلام التي أكملت وتكاملت مع ما سبقها بدأت آياتها بذكر مفتاح جوهري للحياة والوجود البشري، إنه الأمر بالقراءة والتعلم بالقلم، وعلم الإنسان ما لم يعلم ليكون للعلماء والباحثين والخبراء والمتخصصين الفضل الكبير في التعرف على قوانين الخلق في العلوم المختلفة النظرية والتجريبية والطبيعية، بإعمال النظر والتأمل والاستنتاج والتجريب والإنتاج في خدمة الإنسانية، ووظفوا خبراتهم وعلومهم لاستكشاف واستغلال الثروات والخيرات في البر والبحر والجو والكون .. ، وقاموا بتقعيد وتطوير العلوم وتوظيفها في سبيل تقدم وازدهار الشعوب بتملك أسباب العيش الكريم والسليم تعليما وصحة واقتصادا واجتماعا وتنموية مستدامة نموذجية، وبتنافس علمي وشريف من أجل إقرار العدالة الشاملة وبناء دولة المؤسسات وحقوق الإنسان …
إن الفهم السليم يكون بالمعرفة وإعمال العقل المتزن لإدراك دلالات ما يعرف بالثنائيات المتقابلة والمتضادة، ومنها على سبيل المثال: الحياة والموت، الخير والشر، العدل والظلم، الحق والباطل، الخطأ والصواب، الجهل والعلم، التخلف والتقدم، الظلام والنور، الصحة والمرض …إلخ. وكان من باب أولى وأحرى أن يعي البعض دلالات أن الله جعل لكل داء دواء، وأن يستوعب حديث الرسول الكريم : ” لكل داءٍ دواءٌ، فإذا أُصِيبَ دواءُ الداء، بَرَأَ بإذن الله عزَّ وجل ” ، وقَالَ: “إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ “:
فدواء داء الجهل والأمية هو التعليم يقوم به حسب العصور أهل الاختصاص، وهم اليوم الأساتذة من التعليم الأولي إلى الأكاديمي والفقهاء والعلماء، وأصحاب الخبرات والتجارب والمصلحون المتنورون الإيجابيون.. أما الأمراض والأوبئة فدواؤها بين يدي العلماء والأطباء والخبراء بالمختبرات ومعامل تصنيع الأدوية في مختلف المجالات التطبيبية وليس بيد المشعوذين والتضليليين بكل أنواعهم وتجار الوهم المستهترين بأرواح الناس وأموالهم ومصيرهم…
أما الدين فهو للجميع والإيمان به من عدمه أمر متروك لقرار المخاطبين بالرسالات السماوية والعقلاء، والدين يأخذ منه الناس بالضرورة ما لايقوم الإيمان والإسلام إلا به، وفعل ما يستطيعون منه باليسر والوسطية والاعتدال، ولا حق لأي كان أن يجر الناس نحو الفتن بالتطرف والتشدد والتكفير والتهديد المباشر وغير المباشر، فالرسول المصطفى (ص) هو الرحمة المهداة، أمره الله بالتبليغ فقط، ونهاه عن الإكراه .. وقال تعالى: ( مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ) سورة المائدة …
وهنا يجب أن يذكر وينبه العام والخاص من الناس أن صحة الإيمان من عدمه، ونسبته أو نفيه عن أي كان من البشرية ليس من شأن أي مدع وأفاك، أو فقيه و شيخ .. ذلك لأن الله وحده جل في علاه من له الأمر من قبل وبعد، وهو أعلم بالمتقين والمؤمنين من غيرهم، وهو من يحاسب ويدخل الجنة أو النار، وهو الذي قال : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) سورة يونس ،،، فإذا كان هذا هو واقع الحال مع غير المؤمنين، فكيف الأمر والمنتمون والمنتميات للوطن كلهم مؤمنين ومؤمنات ليتجرأ البعض بدناءة على الإساءة إليهم بترهيبهم بالتكفير ومحاولة التأثير فيهم، وليجر أتباعا لهم من ضعاف العقول والوعي ليسيروا على مسالك شيطانية سفكت فيها الدماء العامة، وقتل العلماء والصالحون والمصلحون، وخربت فيها دول، وعطل التقدم والتطور، وحوربت العلوم والاجتهاد والإبداع …
إن النبي(ص) عندما قال ” أنتم أعلم بأمر دنياكم، وأنا أعلم بأمر دينكم ” يقصد بذلك كل أمور الدنيا من السياسة والفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والهندسة والطب والاقتصاد والفلاحة و…إلخ، وقولته هاته موضوعها يتعلق بتلقيح النخل الذي نهاهم عن القيام به فاحشفت، ولما سألوه عن سبب ذلك، أجابهم بأن هذا يعني أنهم أعلم بأمور دنياهم، وهذا يشمل الناس في كل الأزمنة والأمكنة إلى أن تقوم الساعة …
إن مايعيشه العالم اليوم وما يواجه به هذا الوباء، احترازيا ووقائيا وعلاجا، له أهله: إنهم مؤسسات الدولة في علاقة بالعلماء الأطباء والمختبرات، وعلماء الاجتماع والنفس، وعلماء الاقتصاد كل وفق اختصاصه …، كما أن المعني أولا وأخيرا بهذه الإجراءات التي هي من الدين والعلم والعقل هم المواطنون والمواطنات، أي الشعب المغربي الذي ييسر بوطنية صادقة ميدانيا أسباب النجاح وتجاوز الوباء بأقل الخسائر في الأرواح والاقتصاد و … ،
إن الشعب، بكل مكوناته، بانضباطه وتطبيقه للأوامر والنصائح والإرشادات والإجراءات واحترامه للقوانين والتشريعات، وبمساهمته ودعمه وتشجيعه للسلطات العمومية لتنجز مهامها التي لاتتوقف على مدار الساعة لمصلحة صحة وعيش المواطنين والمواطنات .. سيجعلنا نتغلب وننتصر جميعا على هذه الجائحة، وحتى على الفقر والخصاص والهشاشة، وسنستخلص ونستثمر كل الدروس والعبر والتجارب المكتسبة في هذه الظرفية العالمية والوطنية العصيبة، وسنثمن عاليا بتجنيد كل الإرادات والإمكانيات والمؤسسات لننطلق بالنموذج التنموي الجديد الذي لابد أن يجد فيه الشعب والدولة كل أسباب القوة والتقدم والبناء الديموقراطي، بالتطوير الجيد لمنظومة التعليم والثقافة ومنظومة الصحة، وبإقلاع اقتصادي وتقني وعلمي ومعرفي، وبجعل الثروة العامة والخاصة في خدمة النهضة المنتظرة ..
إن المنطق والضرورة يقتضيان أن يكون مغرب ما بعد القضاء على هذا الوباء مغربا جديدا مجددا قادرا على اللحاق السريع بركب الدول المتقدمة …

الكاتب : مصطفى المتوكل الساحلي - بتاريخ : 26/03/2020