حين رحلت كتب البيضاء على متن… برويطة !  

العربي رياض

من أهم دورات مجلس مدينة الدار البيضاء التي حرصت على تتبعها بانتباه شديد، كانت في عهد محمد ساجد، الرئيس الأسبق لهذا المجلس، فالموضوع كان يهم تنقيل كتب البلدية إلى إحدى المكتبات غير البلدية، وهي مكتبة معروفة.
قبل حضوري هذه الدورة، كان هناك ما جرى بشارع الجيش الملكي حيث توجد أقدم مكتبة بلدية وأقدم مسرح بلدي، وهما كما يعرف الجميع مقفلان منذ زمن بعيد.
مر من هناك رجل مسؤول في الإدارة المغربية، معروف بشغفه بالقراءة والثقافة عموما، جايل شعراء وكتابا ومسرحيين ونقادا، وكتب كتبا وألف قصائد. بعد أداء طويل في الإدارة، أضحى مسؤولا عن مؤسسة مهمة، من ضمن ما تضم، مكتبات مختلفة. وقف قرب المكتبة البلدية للجيش الملكي، واسترجع بذاكرته أيام الدراسة حيث كانت المكتبة مقصدا له ولأقرانه، فهناك يبحثون عن المراجع وهناك يذاكرون ويتناقشون. كانت المكتبة أيامها تضم قاعات مليئة بكتب التاريخ والفلسفة والمعرفة عموما. اقترب من البناية التي تنبعث منها رائحة النتانة بفعل الأوساخ المؤثثة لجنبانها، وبفعل الإغلاق الطويل الذي استمر لعقود.
سأل أحد العارفين بخبايا المكتبة، الذي صادف أن كان هناك في الآونة التي كان المسؤول يسترجع فيها تاريخ واحدة من أهم مرافق مدينته، فأعلمه بأن براويطا (جمع برويطة) أُدخلت إلى هذه المكتبة قبل مدة، وحملت كل الكتب التي كانت بداخلها، ولا أحد يعرف إلى أي وجهة نُقلت.
المسؤول اختلطت في دواخله الأحاسيس، هل يبكي على جزء من ذاكرته ويتحسر على فناء موقع ساهم في تشكيل شخصيته وشخصية أصحابه، وكان بالنسبة لهم رفاها ودراسة؟ أم يحمل سيارته ويتعقب أوراق الأشعار التي آنسته، عساه يشتم ما تبقى منها؟ لأن مخاطبه أشعره أيضا بأن تلك الكتب قد «استحم» جزء منها في المياه النتنة التي غمرت فضاء المكتبة بفعل الإهمال واللامبالاة.
رجع مسرع الخطى، منزعج المزاج، إلى سيارته. أعتقد أنه كاد أن يبدأ باللعن والسباب، ولِمَ لا الصراخ، لولا مراعاته لوضعه الاعتباري. سار بسيارته مسافة حتى أخمد الغضب الذي بداخله، حمل هاتفه واتصل بكل من قد تكون له صلة بنقل الكتب. كانت الأجوبة متباينة، فهناك من يقول إنها أُحرقت، ومن يقول بيعت، ومن يقول نُقلت إلى مستودع ما.
اهتدى في الأخير إلى أن يسأل المسؤول الأول عن الشأن التدبيري الجماعي، والذي لم يكن سوى محمد ساجد. سأله عن مآل الكتب، بعد التحية والإتيكيت طبعا، فرد ساجد بأن الكتب قد نُقلت إلى غرفة في المحطة الطرفية أولاد زيان، وبأن مصالح جماعته بصدد إعداد خطة لنقلها إلى مكتبة أخرى.
عرّج المسؤول على الطريق المؤدية إلى محطة الكيران، وصل هناك، سأل عن القاعة، وجد الكتب مكركرة وكأنها حُزَم من الخضر والفواكه التي تباع للطبقات الهشة مساء كل سوق أسبوعي. أسطر كتب التاريخ تعانق أسطر كتب الفيزياء، وأوراق كتب الفلسفة مفتوحة على عروش أحرف محفوظات الأطفال، وهكذا…
اعتراه الغضب من جديد، عاود الاتصال بمحمد ساجد وسأله: إن كنتم لا تريدون هذه الكتب، فإني سأنقلها إلى المكتبة التي أشرف عليها. ساجد ما عطلوش، أجابه بدفء: خذها إن أردتها. فنبهه المسؤول إلى أن هذه الكتب هي ملك جماعي، ولا يمكن نقلها إلا بناء على مقرر جماعي تُصوّت عليه الأغلبية من المجلس. وعده ساجد بأنه سيقوم بهذا الإجراء القانوني في الدورة المقبلة للمجلس… وهي الدورة التي حضرتها كما أسلفت.
يجب هنا أن أتوقف قليلا لأقول إن ولاية ساجد على رأس مجلس مدينة الدار البيضاء، كانت من أصعب الولايات، فلا نقطة تمر بدون صراع ومشادة، حتى إن المجلس في سنة 2011 عاش حالة «بلوكاج» حقيقية، وظلت السلطات هي التي تواكب برامج المدينة.
كانت النقطة مدرجة في جدول الأعمال، وبالضبط في وسط الجدول. دامت الدورة ساعات بسبب الجدل القائم حول مختلف النقط المدرجة ضمنه، من تلك النقط ما مر بأغلبية نسبية، ومنها ما لم يمر، وهكذا…
لما وصلت نقطة نقل كتب المكتبة البلدية، أجزم أني لم أر مثل ذلك الإجماع على الإطلاق طيلة تغطيتي لأشغال الدورات. أكثر من 140 يدا مرتفعة إلى السماء، بأصابع متحركة تشير إلى ساجد بتمرير النقطة ودوز لنقطة أخرى.
لا أحد طالب بترك الكتب في مكتبة بلدية أخرى، ولا أحد استفسر ـ والو ـ من باب النقاش البيزنطي، عن الهدف من حرمان البلدية من كتبها.
أعتقد أنه الإجماع الوحيد الذي حصل عليه ساجد طيلة ولايتين.
حكيت هذه الحكاية لأشرح لبعض الإخوة المتحسرين على خطف معرض الكتاب من المدينة، أن ذلك كان متوقعا، فنخبُنا أنهكتها دفاتر التحملات في الصفقات العمومية !

الكاتب : العربي رياض - بتاريخ : 21/05/2025