رهانات الدخول الاجتماعي والسياسي … أين الخلل؟ ثمانية أوراش للإصلاحات المستعجلة

كمال الهشومي*

 

في بداية افتتاح أي موسم اجتماعي وسياسي تعمل أي حكومة في العالم بأسره على استحضار الأولويات بتقييم الموسم المنقض واستشراف الذي بعده، وذلك بناء على مؤشرات وأولويات، خاصة وحالتنا المغربية أن الحكومة تدخل في نصفها الدستوري الثاني، والذي أكيد يتطلب رفع وتيرة وإيقاع الإنجاز، لاسيما ما تعرفه البلاد من تحديات آنية وأخرى تلوح في الأفق، وبدون رفع هذه التحديات الآنية لا يمكن أبدا مواجهة تلك القادمة، والتي يجمع المغاربة بكونها الفرصة التاريخية التي من خلالها يمكن تثمين مسار المغرب اقتصاديا ضمن المنافسة الإقليمية والقارية، والمتمثلة في رهان استضافة كاس العالم الذي يتطلب بنية تحتية لوجيستيكية وثقافية وقانونية جد متقدمة.
لكن يبدو على أن الحكومة الحالية لا زالت منتعشة في مناسبة الخبر والاستحقاق دون إدراك ان الرهان صعب، ويتطلب مجهود جماعي من أجل أجرأة دفتر التحملات المتفق عليه، كرهان وطني وليس كمزايدة انتخابية او مصلحة حزبية لهذا او ذاك.
المثير في حالتنا المغربية حقا ان هناك تناقضا صارخا وتفاوتا كبيرا على مستويين، فعلى مستوى السياسة العامة للدولة تؤطرها المشاريع الملكية الضخمة والتي تعكس إرادة سياسية صارمة في المضي قدما نحو هيكلة الدولة سياسيا، حقوقيا، اقتصاديا واجتماعيا، نجد على عكس ذلك، تهاون وضعف كبيران على مستوى اعتماد وتنفيذ السياسات العمومية التي من المفروض انها المهام الدستورية الأصيلة للحكومة، والتي يبدو على انها تستبيح كل أنواع التهاون وتمطيط الأزمات غير آبهة بأهمية ومحورية الزمن السياسي والاقتصادي، في الوقت الذي تلاحقنا كما سبقت الإشارة إلى ذلك تحديات جمة تعتبر الاجندة الزمنية من أهم عوامله الحاسمة.
من جانب اخر هناك اجماع سياسي ووطني، اعتزاز وتشبث بنظام سياسي من طرف المغاربة الداخل والخارج، استقرار أمنى وطمأنينة واستقرار للمؤسسات، مكانة إقليمية ودولية تتقوى يوم بعد يوم، اتفاق وإجماع لكل المغاربة على الملفات الكبرى للبلاد، وضعية حقوقية مستقرة تنتعش مناسبة بعد اخرى… وغيرها من الدعائم الاساسية والمشجعة لأي حكومة من أجل العمل وتحقيق برنامجها الانتخابي الذي وعدت به خلال حملتها الانتخابية، لكن يبدو أن هذه الحكومة غير آبهة بدقة المرحلة وبعامل الزمن، ودون الكلام على مختلف الزلات والظواهر الغريبة التي يتحفنا بها أعضاء هذه الحكومة بين الفينة والأخرى، فإن من واجب المواطن المغربي المتحمس بطبعه للتغيير وحب التطور إلى طرح سؤال النجاعة ومفهوم المسؤولية ومدى تقديرها من طرف هذه المجموعة الحكومية.
ان رهانات الدخول السياسي والاجتماعي يفرض الانتباه الى الاوراش المستعجلة والمرتبطة آنا بالحياة اليومية للمغاربة، وتفرض الاضافة النوعية للحكومة، والتي تتمثل على سبيل الأولوية لا الحصر ما يلي:

أولا: الثروة المائية
ولأننا ارتبطنا منذ الأزل بالسماء وما تجيده علينا من أمطار تنعش حقينة سدود المملكة وتحرك سوق الشغل بمعدلات مهمة للإدماج، وتنعكس على وضعنا الفلاحي الذي يساهم بقوة في الناتج الوطني الخام وبالتي المساهمة في الرفع من معدل التنمية، وبالرغم من أن تاريخنا عرف موجات جفاف اثرت سلبا على الفرشة المائية آنذاك، ومع التأكيد على ان اتخاذ استراتيجية وقائية على الأقل كان يجب ان تطبق على الأقل منذ أكثر من 20 سنة، ودون الدخول في منطق المحاسبة والتحلل من المسؤولية، فان الوضعية الحالية تتطلب تجاوز المخططات والتشخيصات الى تنفيذ المقترحات والتسريع بذلك كما أشار عاهل البلاد في خطاب العرش، أمام وفرة الخبرات والامكانية المرصودة، مع فتح حوار وطني مسؤول حول مبادئ التنمية المستدامة والحكامة التشاركية في القطاع، وآفاق الإدارة المشتركة بدمج العديد من أصحاب المصلحة والاستخدامات والقضايا المتنافسة، بما في ذلك الحفاظ على البيئة، من أجل ضمان استدامة الموارد المائية، فضلا عن دعم النمو الاقتصادي والاجتماعي بطريقة عادلة دون المساس باستدامة النظم البيئية، وتغيير السلوك على كافة المستويات، عن طريق بلورة أفكار خلاقة للحد من المخاطر المرتبطة بالأحداث الاستثنائية وتغير المناخ، وتعزيزا للتنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة. كل ذلك لن يتأتى الا بتعزيز ثقافة الحوار السياسي والاجتماعي وتحسين فاعلية الإدارة وفهم أحسن للاحتياجات، والتدبير السلمي للنزاعات المتوقعة التي يجب ان تكون موازية لتفعيل الاوراش الكبرى التي دعا اليها عاهل البلاد. ثم تجاوز الشتات الذي يعرفه قرار المسؤولية في قطاع الماء، بين مؤسسات عمومية وقطاعات حكومية (وزارة الداخلية، وزارة التجهيز والماء، وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية، وزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، مكتب الكهرباء والماء الصالح للشرب، والأحواض المائية …)، وهو الشتات الذي يدخل القطاع كذلك الى دوامة تدبيرية يضعف المراقبة ويثقل مسار اتخاذ المبادرات وبالتالي ضعف الحكامة في اتخاذ القرار الناجع لتدبير الموارد المائية المتسمة بالضعف والمتعبة بالإجهاد.

ثانيا: على مستوى الاضرابات والاحتجاجات
طبعا فان حق الاحتجاج والإضراب حق ضمنه الدستور والمواثيق الدولية لحقوق الانسان او للمنظمة الدولية للعمل، وبالرغم من البداية المشجعة بإبرام الاتفاق الاجتماعي ل 30 أبريل 2022، فان واقع الحال والاحداث التي تلت ذلك توضح أن هذه الحكومة لا تمتلك النباهة والقدرة على مجاراة أزمات الاحتجاجات والاضرابات وتدبير الحوار بالحنكة، بل وبالسرعة المطلوبة لاحتواء الوضع، اللهم المزايدة وتبادل الاتهامات وإهدار الزمن التفاوضي، في زمن قيل بأنه عماد إرساء الدولة الاجتماعية، وفي النهاية؛ إهدار الزمن وضياع مصالح الفئة المرتبط بهذا القطاع او ذاك موضوع الاضراب، والدليل على ذلك؛ التعليم، الصحة، طلبة الطب، العدل، الجماعات المحلية … . وهنا نشير الى أن الملام ليست الحكومة او المحتجين فلكل اطاره القانوني ومجال تحركاته، اي ان الاضرابات مسألة عادية، ورغبة الحكومة في تنزيل بل وفرض تصورها مسالة مشروعة ايضا، لكن ما يعاب عليها هو افتقارها للآليات التواصلية وللكاريزما الوطنية التي معها تستطيع اي حكومة ان تفعل تصورها وبرنامجها، بل وتطبق قوانينها التي تم التصويت عليها. وحال ذلك ما تعرض له طلبة الطلب حينما اختارت الحكومة تفعيل تصورها لإصلاح مسار ودفتر تحملات هذه الفئة في إطار اصلاح شمولي للقطاع، فإنها وقفت عاجزة على تمرير ذلك والسبب توضحه التجربة وطبيعة تصريحات مسؤوليها المتميزة بغياب الطابع التدريجي والتسلسلي بل حتى البيداغوجي والتوافقي في الحوار والاقناع مع المعنيين بالأمر، والنتيجة ضياع سنة من مسار تكوين هذه الفئة الحساسة في ضمان صحة المجتمع وسلامته. لذلك فان التعامل بالحكمة المطلوبة وبالحس الوطني العالي وصيانة المكتسبات الحقوقية، والرفع من القدرات التواصلية والتفاوضية هي متطلبات أساسية في العمل الحكومي الأصيل.

ثالثا: تفعيل وانجاح البرامج والمشاريع الاجتماعية
لعل أبرزها مشروع الحماية الاجتماعية، ففي مناسبتين متقاربتين، أعلن الملك محمد السادس عن فشل النموذج التنموي في المغرب، خلال افتتاح البرلمان بتاريخ 13 أكتوبر2017، الذي كان من نتائجه إقصاء فئات عريضة من المغاربة من الاستفادة من خيرات التنمية الاقتصادية، مع ما يرتبط بذلك من ضعفٍ وهشاشةٍ في منظومة الحماية الاجتماعية وتغطيتها للمواطنين. وتقاطع هذا الإعلان مع ما كانت ترافع من أجله الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمنظمات الحقوقية، وهو ضرورة إرساء عدالة اجتماعية ترتكز على مبدأ التضامن والتوزيع العادل للثروات. فذكر جلالة الملك بعجز منظومة الحماية الاجتماعية في المغرب وحجم الخصاص الاجتماعي وسبل تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية التي كانت من أهم الأسباب التي دفعت إلى الدعوة لتجديـد النموذج التنموي، كما دعا الحكومة وجميع الفاعلين المعنيين إلى القيام بإعادة هيكلة شاملة وعميقة للبرامج والسياسات الوطنية في مجال الدعم والحماية الاجتماعية، وإلى اعتماد مقاربة تشاركية والتعجيل في تنفيذ هذه البرامج. وفي مناسبة أخرى أكد جلالته أن هذا المشروع “يتطلب إصلاحا حقيقيا للأنظمة والبرامج الاجتماعية الموجودة حاليا، للرفع من تأثيرها المباشر على المستفيدين، خاصة عبر تفعيل السجل الاجتماعي الموحد”، مشيرا إلى “‘أنه ينبغي أن يشكل تعميم التغطية الاجتماعية، رافعة لإدماج القطاع غير المهيكل في النسيج الاقتصادي الوطني”.
ورغم أهمية المشروع ورهاناته وما تحقق الى غاية اليوم، إلا أن تنزيله بدءا من الحكومة السابقة والحالية يواجه العديد من الإكراهات، عدم تجاوُزِها يجعل المشروعَ غير قابل للتنزيل على أرض الواقع، وتظل بذلك العديد من الفئات الاجتماعية المهمشة (من بينها أرامل وأيتام وأشخاص في وضعية إعاقة وشيوخ على سبيل المثال) محرومة من أبسط ضمانات العيش الكريم. ولذلك وجب مسائلة الحكومة الحالية في مدى تفعيل اتخاذ الإجراءات المواكبة التي وضعتها بنفسها والتي تهم أساسا تكثيف برامج التكوين، والتدريب، والتوظيف للمهارات الطبية والمهنيين الصحيين، لمواجهة الطلب الذي ازداد بوتيرة مرتفعة مع تنزيل هذا الورش المجتمعي الكبير. وتعزيز الإمكانات والقدرات الطبية الوطنية، ومواجهة النقص في الأطر الصحية التي يقتضيها نجاح هذا الإصلاح، واقتراح فتح مزاولة مهنة الطب أمام الكفاءات الأجنبية، وتحفيز المؤسسات الصحية العالمية على العمل والاستثمار في القطاع الصحي بالمملكة، وتشجيع التكوين الجيد وجلب الخبرات والتجارب الناجحة.
لكن يبدو ورغم المجهودات المتناثرة هنا وهناك، فإن مدخلات واقع الحال يبين أن ربح رهان التقعيد النهائي لهذا المشروع في جوانبه الأربعة غير ممكن قياسا على النتائج المسجلة خلال النصف الأول من الولاية الحكومية الحالية، لا من حيث الكم او الكيف، وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم ينجح نظام التغطية الصحية حتى الآن في إدماج عدد كبير من طلبة الجامعات، على الرغم من إصدار القانون المتعلّق بتعميم التأمين الإجباري عن المرض لفائدة طلبة الجامعات ومؤسسات التكوين المهني، وفق إحصائيات صادرة عن الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي. والسبب وراء ذلك هو ضعف حملات الدعوة والتحفيز بين صفوف الطلبة لحثّهم على الانخراط في نظام التغطية الصحية، وإن كان معظم الطلبة يفضلون أن تتم هذه التغطية من دون الحاجة إلى دفع ذلك المبلغ الزهيد للانخراط (100 درهم). هذا فضلا عن نظــام التقاعــد الذي يعاني أصلا من مشكل الحكامة والتوازن قبل قدرته على التغطية الشاملة لفئات جديدة خارج فئتي موظفـي وأجـراء القطاعيـن العـام والخـاص، في ظل انتظار تطبيق القانـون رقـم 15.99 المتعلّق بإحـداث نظـام للمعاشـات لفائـدة المهنيّيـن والعمّـال المسـتقلّين والأشخاص غيـر الأجراء الذيـن يزاولـون نشـاطاً خاصّـاً، بحلول عام 2025، كما هو مسطّر في الجدول الزمني لتعميم الحماية الاجتماعية الذي أعدته الحكومة المغربية. وبالتالي فان رهان هدف تثبيث ركائز الدولة الاجتماعية يبقى شعارا مأمولا بعيدا عن التنفيذ.
ولعل من بين الأسباب الأساسية التي تقف عائقا امام تقوية مسار الإنجاز والتفعيل هو عدم قدرة هذه الحكومة على التتبع الفطن والذكي للبرنامج من خلال الالتقائية الناجعة لمختلف محاوره المشتتة بين القطاعات الوزارية (وزارة الداخلية، وزارة الاقتصاد والمالية، وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، وزارة الصناعة والتجارة … ) حيث يجعله مشتتا عند أكثر من مسؤول وزاري، كل له حساباته ومنهجية عمله، وينعكس بالتالي على النجاعة والجودة وسرعة التنفيذ، أي أن هذا المشروع الملكي المهيكل للمجتمع المغربي يتطلب قيادة وحيدة أو على الأقل قطب منسجم وموحد لاتخاذ القرار المالي والاداري.

رابعا: حماية القدرة الشرائية للمواطن
هناك استفهام كبير لعدم قدرة الحكومة وعجزها الكبير على ضبط تعاملات وسلسلة الإنتاج الوطنية من المنشأ الى المستهلك، بحيث تقف الحكومة ومعها مؤسسات الحكامة، خاصة مجلس المنافسة متفرجين على الارتفاع المهول في الأسعار في المحروقات وجميع المواد الغذائية بما فيها المواد الأساسية، التي تعتبر أساس القوت اليومي لعموم المغاربة كالطماطم والبصل والبطاطس والقطاني. بل أصبح ضعف القدرة الشرائية يمس بالإضافة لذوي الدخل المحدود أيضا الفئات المتوسطة، بحيث أصبح هناك جشع خطير يتزايد يوما عن يوم في كل المجالات، الشيء الذي نتج عنه تسارع معدل التضخم السنوي في المغرب، مسجلاً أعلى مستوى في ستة أشهر، وذلك وفقا لنشرات المندوبية السامية للتخطيط التي اكدت إن ارتفاع التضخم جاء مدفوعاً بتسارع أسعار المواد الغذائية، المحرك الرئيسي للتضخم.
امام هذه الوضعية تدفع الحكومة بتبريرات مرتبطة بارتفاع أسعار البترول والمواد الطاقية على مستوى الأسواق العالمية، عوض تشديد المراقبة والضبط المخول لها ولمؤسساتها قانونيا. ولأن حبل التبرير قصير، فبالرغم من تراجع أثمنة هذه المواد الطاقية في الأسواق العالمية لم ينعكس ذلك على تراجع الأسعار وطنيا، بل ظلت مرتفعة وتأخذ من جيب المواطن الذي لازال في مواجهة مباشرة مع الجشع اليومي في كل ما يرتبط بحياته اليومية، ولا يفهم بتاتا هل هذه الحكومة في حاجة الى استرداد قطاع الشؤون العامة والحكامة، والتي كان يضم مديرية خاصة بمراقبة وتحديد الأسعار وكانت تلعب دورا محوريا في مواجهة الغلاء؟ أم هي سياسية مقصودة من طرف الحكومة من أجل فرض واقع معين؟ وبالتالي وجب تأكيد ذلك لان أي حكومة سياسية تكون لها القدرة على الدفاع عن أطروحاتها واختياراتها الاقتصادية والاجتماعية بقوة أمام الرأي العام.

خامسا: التشغيل والشغل
المثير في هذا الملف هو زعم الحكومة من خلال تصريحها الحكومي أنها وضعت كهدف مركزي؛ تشغيل مليون مواطن مغربي، وعملت بناء على ذلك على تمويل برامج بميزانيات محترمة جدا قرابة خمسة ملايير درهم سنويا خاصة برنامج «فرصة» و»أوراش»، هذا دون احتساب البرامج التي تمول ضمن برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، او من طرف بنك المغرب الخاصة بدعم المقاولات الصغيرة او برامج القطاع الخاص والنسيج الجمعوي بشراكات دولية، ودون احتساب باقي البرامج في نفس المجال التابعة لبعض القطاعات الحكومية كوزارة الاقتصاد والمالية، او الوزارة المنتدبة لإصلاح الإدارة والانتقال الرقمي وغيرها من القطاعات الحكومية كالوكالة الوطنية لانعاش التشغيل والكفاءات (انابيك). والعجيب ان هذه الحكومة المعروفة بحكومة رجال الاعمال تستثمر ميزانيات ضخمة دون ان تكون لها انعكاس على المجتمع، اذ ان الدراسات تؤكد ارتفاع معدل البطالة في المغرب إلى نسبة 13.7 مقابل 12.9 في المائة خلال الفترة نفسها من العام الماضي، وفق ما أكدته المندوبية السامية للتخطيط في آخر مذكرة إخبارية حول وضعية سوق الشغل. وهو ما يجعل البطالة معضلة للاقتصاد الوطني في وقت وعد فيه البرنامج الحكومي بعدد كبير من مناصب الشغل ونسبة نمو قادرة على التخفيف من هذا المعدل. صحيح أن الجفاف من بين العوامل الذي انعكس على مناصب الشغل في المجالين الفلاحي والغابوي بشكل أكبر، ثم ضعف القدرة الشرائية للمواطنين التي أدت إلى إضعاف المقاولات وإفلاسها.. إلا أن الحكومة مطالبة بالانكباب بشكل جدي ومسؤول على هذه المعضلة من أجل البحث عن الأعطاب التي تحول دون خلق مناصب شغل، حيث أصبح واضحا أعطاب البرامج الحكومية التي أسمتها بالواعدة، والتي حالت دون أن يكون لها أثر مباشر على خلق مناصب شغل او استدامة المقاولات الصغيرة والمتوسطة. ثم إصلاح مناخ الأعمال، عبر الإصلاح الضريبي وتشريعات العمل وتفعيل اكثر لميثاق الاستثمار الجديد الذي يعتبر ثورة نوعية في مجال الاستثمار من جهة، ومن جهة أخرى لا بد من ابتكار سياسة مندمجة وشمولية تحاول الإجابة عن إشكاليات التشغيل والنمو وتشجيع الاستثمار، كما يجب الادراك أن قطاعات التشغيل بالمغرب متداخلة ولا تقتصر على وزارة بعينها، مع الاخذ بعين الاعتبار الجيل الجديد للمهن والخدمات نتيجة للتحولات التكنولوجية التي تؤدي إلى استعمال متنامي للتقنيات الحديثة في مكان العمل والاستغناء عن اليد العاملة، ثم الطابع الترابي لخلق مناصب الشغل لإشراك الفاعلين على الصعيد الترابي من أجل التفكير في الحلول الملائمة لخصوصية كل جهة. وضرورة الانتباه إلى أن ارتفاع معدل البطالة يؤدي الى انخفاض الطلب وعدم اليقين الاقتصادي وبالتالي تراجع الاستثمارات المحرك الأساسي لخلق فرص العمل سواء منها الخاصة أو الأجنبية.
اما في الجانب الاخر فان الاعتناء ومراجعة المقتضيات المرتبطة بجهاز الشغل من حيث التفتيش او السلامة بفضاء العمل وما يرتبط بالعمل اللائق وفقا لالتزامات المملكة في هذا الجانب، فهو يفرض الانتباه الى الموارد البشرية المرتبطة بهذه المهام، باعتبارها عصب العملية الشغلية. خاصة في القطاع الخاص للحفاظ على المقاولات وضمان استمراريتها، وكذلك بصيانة حقوق وتتمين مكتسبات الرأسمال العمالي.

سادسا: قطاع الرياضة
هذا القطاع الذي عرف صحوة كبيرة مرتبطة بالشعور الوطني لما تحقق في كرة القدم، ولما تم الاعداد له مسبقا باهتمام ملكي خالص والاقتناع المؤكد ان الرياضة رهان أساسي للمساهمة في التنمية وخلق الثروة أيضا من جهة، ومن جهة أخرى، الاستحقاق الضخم الذي ينتظر بلادنا المؤهلة لتنظيم كأس العالم لسنة 2030 الى جانب اسبانيا والبرتغال، وهي الرهانات التي يجب ان تعطى لها من الجدية البالغة والغير القابلة للتأجيل. ولعل هنا نذكر الحكومة فيما تبقى لها من ولايتها بالتزاماتها في هذا المجال، حيث اكد البرنامج الحكومي على سعي الحكومة نحو ترصيد الاستراتيجيات الخاصة بالرياضة، و أيضا بلورتها لسياسة عمومية رياضية تستجيب للحاجيات والقدرات، مع وضع آليات لتنزيلها بشكل أفضل على المستوى المدرسي والترابي، وتعزيز إرساء الالتقائية بين قطاعات الشباب و الرياضة والتربية الوطنية ومضافرة جهودها؛ وتأهيل التشريع الرياضي، وتعزيز مباردة الإصلاحات الهادفة إلى إحداث تغيير نوعي في طرق و آليات عمل التنظيمات الرياضية الوطنية، وتوفير الفضاءات والبنيات التحتية المفتوحة في وجه الشباب؛ وإحداث مسالك للتكوين الاحترافي للرياضة بما في ذلك الأشخاص في حالة إعاقة، وجعلها من روافد الاقتصاد الوطني الخلاقة لفرص الشغل ورفع مساهمتها في الناتج الداخلي الخام… . وهي ملفات يجب إعطائها الاولوية وهيكتها كقطاع متكامل ومستقل بوزير خاص.

سابعا: تقليل الفوارق المجالية
أن النمو الاقتصادي غالبا ما يتمحور حول أقطاب أو محاور اقتصادية معينة، هذه المحاور الاقتصادية الكبرى تعمل على التحكم في تدفق الاستثمارات وسحب جزء كبير منها وما يرتبط بها من انشطة اقتصادية من النطاقات المجالية المحيطة بها، وهو ليست مسألة غريبة أو غير صحية، لكن المشكل هو الا تستفيد باقي الجهات الأخرى الغير مؤهلة لمثل تلك الاستثمارات من توزيع ثروة في اطار الوحدة الوطنية وهو ما نسميه بالتضامن بين الجهات الذي أكد عليه الدستور، مما يفضي إلى تعميق اللاتوازن في التنمية المجالية، وفي توزيع الثروات بين مختلف الجهات والمناطق الجغرافية. وهو ما كشف تقرير المندوبية السامية للتخطيط الى الحاجة الملحة لسياسات اقتصادية تستهدف تحقيق توازن أكبر في توزيع الثروة بين الجهات.
هذه الوضعية تساءل النخب المحلية على مدى استيعابها لخيار الجهوية والفعل الترابي وليس دائما التبعية الى المركز بل خلق الثروة المحلية والتفاوض مع المركز من اجل ضمان التوازن في الدعم والمواكبة الى حين التأهيل والقدرة على العمل الذاتي، وهو المرتبط أساسا بمفهوم التنمية باعتبارها تغيير للهياكل العقلية اساسا والاجتماعية التي تعزز التفاعل المتبادل بين جهاز الإنتاج والسكان لخدمة هؤلاء الأخيرين. ثم التمييز بين ثلاثة أنماط رئيسية للتنمية: النمو المحلي الذاتي يتمثل في نمو المنطقة من مواردها الخاصة؛ والنمو الخارجي يعتمد على الاستحواذ على موارد خارجية أخرى؛ وتقوم التحالفات الاستراتيجية بتشكيل شراكات مع مناطق وجهات أخرى وفق ثلاثية المرجع في التنمية المستدامة: البيئة، الاقتصاد، والمجتمع.
جيد ان تحرص الحكومة على تقوية اغلبيتها وامتداد ذلك على المستوى الجهوي بتحالفات سياسية جهوية، لكن الملاحظ ان مجالس هذه الجهات في معظمها تابعين للحكومة وأصبح رؤساء هذه المجالس كموظفين لدى الحكومة ينتظرون توجيهاتها لتنفيذها وهو ما يضرب عمق الاختيار الديمقراطي للجهوية كما رسمها وأسس لها الدستور المغربي صلاحيات إدارية ومالية.
ان هذه الوضعية تفرض وجوب تركيز الحكومة خلال الفترة المقبلة على تعزيز البنية التحتية في الجهات الأقل مساهمة ودعم القطاعات الاقتصادية ذات الإمكانيات العالية للنمو، مع تشجيع الاستثمار وتقديم الحوافز الاقتصادية وتطوير الموارد البشرية في الجهات الأقل نموا، لغاية تحفيز النمو في الجهات التي تسجل معدلات نمو سلبية أو منخفضة، من اجل معالجة الفوارق المتزايدة في الثروة التي تستوجب اليوم تضمين مشروع قانون المالية 2025 إجراءات مستعجلة لتنزيل سياسات تنموية تستهدف تحقيق تنمية متوازنة بين الجهات، بما يضمن توزيعا أكثر عدالة للثروة وتحقيق فرص متساوية للجميع، عن طريق استراتيجيات متكاملة لتحقيق تنمية تتجاوز تحسين الأداء الاقتصادي على المستوى الوطني، لتشمل تقليص الفوارق بين الجهات وتعزيز العدالة الاجتماعية والاقتصادية.

ثامنا: استكمال تفعيل دستور 2011
ورغم ان الحكومة لغاية اليوم لم تضع مخططها التشريعي لهذه الولاية التشريعية (2021-2026)، فان الدستور يقيدها كما قيد سابقاتها اللذين لم يوفوا بتفعيل الفصل 86 من الدستور الذي اعتبر أن الفترة الانتقالية لتفعيل وإخراج كل القوانين التنظيمية هي الولاية الحكومية التي تلت اعتماد الدستور، وعليه فإنه لا زالت بعض القوانين التنظيمية لم ترى النور وفي مقدمتها القانون تنظيمي رقم 86.15 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون، والتي صرحت المحكمة الدستورية بأن الإجراءات المتبعة لإقرار هذا القانون التنظيمي غير مطابقة للدستور؛ وفقا للقرار رقـم 207/23 بتاريخ  21 فبراير 2023، ومنذ ذلك الحين لم تحرك الحكومة ساكنا. ثم القانون التنظيمي بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب وهو مشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 الذي أحيل على مجلس النواب بتاريخ 6 أكتوبر 2016، مشروع لم يحترم نهائيا الباب الخاص بالحقوق والحريات كما رتبها دستور 2011، مما يتطلب تعديلا شاملا اثناء مواصلة مباشرة نقاشه بالمجلسين، هذا فضلا عن مجموعة من القوانين التي يجب ان تلاءم مع الدستور ويجب مراجعتها كالمسطرة المدنية، والمسطرة الجنائية، تشريعات العمل من مدونة الشغل، وقانون النقابات والانتخابات المهنية … وغيرها من القوانين المهيكلة والتي لها علاقة مباشرة اما بمسار الاختيار الديمقراطي للبلاد كما رسمه دستور 2011، او لها انعكاس على تحسين مناخ الاعمال والاستثمار.
ان هذه الوضعية الغير الطبيعية التي عرفت تراجع مجموعة من القطاعات بل وسكون أخرى، تساءل هذه الحكومة التي تعتبر نفسها حكومة كفاءات ونساء ورجال اعمال يحسنون التدبير والتوقع والتخطيط، والقدرة على التنفيذ، وهو عكس ما يعبر عليه الواقع اليوم. رغم أن هذه الحكومة اجتهدت على مستوى الهندسة القطاعية، وتعبئة ميزانيات ضخمة والترويج لذلك إعلاميا ومجتمعيا، وبالرغم من الاجماع الحاصل اليوم على طبيعة الملفات الكبرى للبلاد سياسيا وأمنيا – كما سبقت الإشارة الى ذلك في مقدمة هذا المقال -، يبدو على أن هناك خلل ما على مستوى الهيكلة والتصور وآليات التنفيذ، وهو ما يستدعي الحكومة الى التحرك في هذا الجانب على مستوى تعديل المنهجية والاليات قبل التعديل على مستوى الاشخاص واالبروفايلات.

*أستاذ التعليم العالي
جامعة محمد الخامس

الكاتب : كمال الهشومي* - بتاريخ : 09/09/2024