عائدون إلى آيت بوكماز

بقلم: نورابدين زوبدي
ما شدّ انتباهي خلال الأيام الأخيرة، هو الصراع المحموم على ركوب مسيرة آيت بوكماز، تلك القرية الجبلية المعلقة بين الصمت والثلج، في أعالي الأطلس الشامخ. فجأة، صرنا نسمع عن “زيارات ميدانية” لزعماء سياسيين، تدرّعوا بشعارات “الإنصات” و”الاهتمام بمشاكل الساكنة”، فيما الحقيقة تختبئ خلف عدسات هواتفهم.
استمعت إلى مداخلة أحد هؤلاء “الزعماء”، لم يحمل للناس أي خبر سار، سوى وعود مهزوزة وعبارات منمّقة. كان صوته أقرب إلى الصدى منه إلى الإجابة. حينها، قفزت إلى ذهني أحداث رواية الفلسطيني غسان كنفاني “عائد إلى حيفا”، وتأكدت أن هذا السياسي، مثل والدَي خلدون، يعود بلا أمل… وبلا أثر حقيقي.
في الرواية، يعود الأبوان الفلسطينيان إلى مدينتهما حيفا بعد عشرين سنة من التهجير، باحثَين عن ابنهما الذي تركاه خلفهما خلال الحرب. لم يجدا منه سوى خربشاته الطفولية على الجدران، وصدمة أكبر: الابن أصبح جنديًا في جيش الاحتلال الإسرائيلي. كانت العودة مواجهةً جارحة مع الذات، لا شفاءً للذاكرة.
وفي آيت بوكماز، كانت الزيارة كذلك: صدمة لمن لا يريد أن يرى الحقيقة. فمن يعود إلى القرية فقط حين تسطع أضواء الإعلام، ثم يغادر دون خطة أو التزام، لا يختلف كثيرًا عن من يعود ليجد الوطن غريبًا، والوجوه متحولة، والذكرى عارية.
لقد تحوّلت محنة ساكنة الجبل إلى مسرح موسمي للبروز السياسي. هؤلاء الذين “عادوا” إلى آيت بوكماز، لم يعودوا لأجل أهلها، بل لأجل أنفسهم، مثل والدي خلدون… لا صوت يُذكر، سوى خربشات طفل قديم على حائط الزمن.
الناس في آيتبوكماز، مثل كل قرى المغرب العميق، يعرفون من يجيء ليرى، ومن يجيء ليفهم. من يأتي ليعد، ومن يأتي ليُنفّذ. المواطن اليوم ليس هو المواطن بالأمس. لقد أصبح يُفرّق بين التضامن الحقيقي، وبين التوظيف السياسي المفضوح الذي يركب المآسي ليرتّب أصواتًا في الانتخابات.
الفرق كبير بين العودة إلى الناس، والعودة إلى صورة الناس. والعودة من دون نية في التغيير، لا تختلف كثيرًا عن زيارة خالية من الشعور… مثل زيارة حيفا بعد عشرين عامًا.
الكاتب : بقلم: نورابدين زوبدي - بتاريخ : 19/07/2025