عندما تتحول إمكانيات الدولة إلى أدوات استقطاب انتخابي
نور الدين زوبدي
في خضمّ النقاش العمومي المتصاعد حول تخليق الحياة السياسية وتحصين المسار الديمقراطي، يبرز اليوم مطلبُ وضع ضوابط صارمة تضمن انتخابات نزيهة وشفافة كأحد أهم شروط الحفاظ على الصورة التي راكمها المغرب في المحافل الدولية خلال السنوات الأخيرة. فالمملكة، وهي تواصل ترسيخ مكانتها كبلد مستقر سياسياً ومؤسساتياً، لم تعد تحتمل أيّ ممارسات من شأنها أن تُضعف الثقة في مسارها أو تشكّك في جدية التزاماتها الإصلاحية. وتتأكد الحاجة إلى هذا التخليق مع ضخامة الرهانات المقبلة، من تنزيل مقترح الحكم الذاتي في أبعاده التنموية والمؤسساتية، إلى استعداد البلاد لاحتضان تظاهرات قارية وعالمية تستوجب أقصى درجات المصداقية والانسجام بين الخطاب والممارسة. وفي هذا السياق، يعود إلى الواجهة سؤال جوهري: كيف يمكن صون هذا المسار الإصلاحي وضمان عدم انزلاق العملية الانتخابية إلى ممارسات تُشوّه التنافس السياسي وتضعف منسوب الثقة العامة؟
يشهد المشهد السياسي الوطني اليوم مظاهر متعددة من الإفساد الانتخابي، تتراوح بين ممارسات تنظيمية غير شفافة واستغلال النفوذ الإداري، إلا أن أبرز هذه الأشكال هو توظيف الإمكانيات المالية للدولة في التأثير على اختيارات الناخبين. ورغم المخاطر الكبيرة لهذا النهج في خلق تفاوتات مجالية وترابية بين الجهات والمناطق، فإن هذا الاستغلال المباشر أو غير المباشر للموارد العمومية يترك أثره الواضح على نتائج العملية الانتخابية ويقوض مبدأ التنافس النزيه.
تتجلى اليوم معالم الإفساد الانتخابي في أشكال متعددة، أبرزها استغلال بعض أحزاب التحالف الحكومي لمواقع النفوذ داخل القطاعات العمومية، وتحويل مقراتها الجهوية إلى ما يشبه مصالح لاممركزة تُعلَن منها المشاريع وتُبرمج أخرى لفائدة من يصطفون في الطوابير الانتخابية.
وقد أصبح من الواضح أن بعض قيادات هذه الأحزاب باتت تتصرف في المدراء الجهويين وكأنهم جزء من أجهزتها التنظيمية، حيث تُوجَّه إليهم الاستدعاءات للحضور داخل المقرات الحزبية قصد تلقي التعليمات وتوجيه البرامج، وذلك بحضور عدد من المنتخبين الذين جرى استقطابهم مسبقاً. هذا السلوك يعكس توظيفاً خطيراً لمؤسسات الدولة في خدمة أجندات حزبية ضيقة، ويعمّق مظاهر الخلل في نزاهة التنافس السياسي.
إن نجاح بلادنا في تنظيم انتخابات نزيهة وشفافة لا يتحقق فقط عبر تعديل القوانين الانتخابية وتجويد مساطرها، بل يتطلب قبل ذلك ضمان تكافؤ الفرص بين جميع الفاعلين السياسيين دون استثناء. فالقوانين، مهما كانت متقدمة، تظل مجرد مدخل أساسي لا يكتمل أثره إلا بوجود ردع فعلي لكل توظيف غير قانوني للسلطة أو استغلال للمواقع الإدارية والحزبية في توجيه المنتخبين والناخبين على حد سواء. غير أنّ توظيف أحزاب الأغلبية لبرامج التنمية الحكومية في حملاتها الانتخابية، واستمالة رؤساء الجماعات والمنتخبين، يشكل ضرباً صريحاً لهذا المبدأ ويقوض أسس التنافس الديمقراطي.
ولا يمكن اعتبار أي استحقاق انتخابي سليماً في ظل هذا الخلل البنيوي في موازين القوة، حيث تتفوق إمكانيات بعض الأطراف بشكل ساحق، بينما تجد أحزاب المعارضة نفسها محاصرة بضيق الوسائل وضعف القنوات المؤسساتية للتأثير، وهو ما يدفع بعضها إلى تبني خطاب احتجاجي حاد أو تبسيطي كوسيلة وحيدة للتموقع داخل الساحة السياسية. ولا يمكن الحديث عن تنافس حقيقي بين الأحزاب في ظل هذا التفاوت الصارخ في الإمكانيات والوسائل المتاحة لكل طرف؛ فالوضع الحالي يكشف عن خلل واضح: أحزاب تمتلك القرار التنموي وتوجهه وفق رغبتها، مستغلة إياه في عمليات الاستقطاب وتعزيز نفوذها الانتخابي. وفي مواجهة هذا «التغول» في استثمار موارد الدولة لخدمة مصالح انتخابية، تلجأ بعض القوى السياسية إلى تأطير الاحتجاجات الشعبية ومحاولات تبنيها، غالباً دون قناعة حقيقية أو مشروع سياسي واضح، وهو ما يزيد من تآكل الثقة ويضر بجودة العملية السياسية برمتها.
إن استمرار الحكومة في تسخير إمكانيات الدولة لخوض حملاتها الانتخابية يهدد بإدامة اختلال ميزان القوى لصالحها، ويقوّض مبدأ التنافس الشريف الذي يمثل جوهر أي مسار ديمقراطي سليم. سلوكهم هذا يمثل مخالفة صريحة للإرادة الملكية والتوجيهات الواردة في الخطب الملكية، ويعكس تعنتاً حكومياً وإصراراً على ممارسة سياسات الإفساد واستغلال السلطة لمصالح ضيقة. لذلك، فإن تحصين العملية الانتخابية يستدعي حزماً وصرامة سياسية لضمان عدم استغلال إمكانيات الدولة وفك الارتباط بين العمل الحكومي والعمل السياسي لأحزاب التحالف الحكومي، حتى يظل صوت الشعب هو الفيصل وليس نفوذ أحزاب التحالف الحكومي.
فكيف يمكن إقناع المواطنات والمواطنين بأننا نتقدم فعلاً في مسار التخليق والإصلاح، وهم يشاهدون بكل وضوح ممارسات حكومية تناقض الخطاب الرسمي؟ وكيف يمكن أن نتحدث عن بناء مغرب ما بعد 31 أكتوبر، وأحزاب التحالف الحكومي ما تزال مُصرّة على نفس النهج القديم، وكأن دار لقمان لم تتغير بعد؟
الكاتب : نور الدين زوبدي - بتاريخ : 27/11/2025

