ما وراء التصعيد الجزائري: خيارات محدودة أمام نجاحات المغرب
علي الغنبوري
تشهد العلاقات المغربية الجزائرية تصعيدا غير مسبوق يظهر بشكل واضح انحياز الجزائر نحو مواقف عدائية تجاه المغرب، وهو ما تجلى مؤخرًا في استضافتها لفعاليات نظمتها مجموعات انفصالية ريفية معادية للوحدة الترابية المغربية، وسط العاصمة الجزائرية، وقد حظيت هذه الفعاليات بدعم رسمي وشبه رسمي، من خلال حضور ممثلين عن الأحزاب السياسية الجزائرية، برلمانيين، ومسؤولين حكوميين، حيث لم تعد هذه الخطوة مجرد تعبير عن التضامن مع هذه الحركات الانفصالية، بل تحمل أبعادا استراتيجية وسياسية عميقة تهدف إلى تقويض استقرار المغرب وإظهار الجزائر كحاضن للقضايا المعارضة لسيادته.
يواكب هذه الاستضافة حملة إعلامية مكثفة تقودها وسائل الإعلام الرسمية الجزائرية، التي تصعّد هجماتها على المغرب والمغاربة بشكل ممنهج، مستخدمة خطابا عدائيا يتجاوز الخلافات الدبلوماسية التقليدية ليصل إلى مستويات غير مسبوقة من التحريض، هذه التصرفات ليست معزولة عن السياق الجيوسياسي الإقليمي والدولي، بل تعكس توترا دفينا تغذيه الإخفاقات الجزائرية المتعددة أمام المغرب على مستويات متعددة: دبلوماسية، اقتصادية، وأمنية.
استضافة الانفصاليين الريفيين: أداة لتأجيج التوترات
استضافة الجزائر للانفصاليين الريفيين تحمل دلالات استراتيجية عميقة، تعكس رغبة واضحة في تأجيج التوترات مع المغرب، ضمن مسار تصعيدي متواصل، فهذه الخطوة لم تأت بشكل منفصل عن سياق التوترات الثنائية، بل جاءت كجزء من استراتيجية متعددة الأبعاد تسعى من خلالها الجزائر إلى تحقيق أهداف داخلية وخارجية، وإن كانت على حساب استقرار المنطقة.
في المقام الأول، تبدو استضافة هؤلاء الانفصاليين بمثابة محاولة متعمدة لتشتيت الانتباه عن الأزمات الداخلية المتراكمة التي تعيشها الجزائر، فالنظام الجزائري يواجه تحديات اقتصادية جسيمة ناجمة عن تراجع عائدات النفط وعدم القدرة على تنويع الاقتصاد، بالإضافة إلى احتقان اجتماعي يعبر عنه حراك شعبي لم تهدأ ناره بالكامل رغم محاولات القمع، حيث يبدو في هذا السياق توجيه الأنظار نحو قضية خارجية وسيلة ملائمة لإعادة توجيه النقاش العام بعيدا عن الأزمات الداخلية الملحة التي تثقل كاهل السلطات الجزائرية.
على الصعيد الإقليمي، تأتي هذه الخطوة كرد فعل على النجاحات الدبلوماسية الكبيرة التي حققها المغرب في السنوات الأخيرة، ولا سيما في ملف الصحراء المغربية، فقد استطاع المغرب تحقيق مكاسب استراتيجية هامة، تمثلت في اعتراف قوى دولية كبرى بسيادته على أقاليمه الجنوبية، إلى جانب نجاحه في استقطاب دعم متزايد لمبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي ومقبول دوليا، فهذه النجاحات وضعت الجزائر في موقف دفاعي، ما دفعها إلى تبني استراتيجيات مضادة تهدف إلى خلق نوع من «التوازن الدبلوماسي» عبر إظهار دعمها العلني لحركات معارضة للوحدة الترابية المغربية، ومع ذلك فإن هذا التحرك يعكس أزمة عميقة في تصور الجزائر لدورها الإقليمي، حيث تلجأ إلى سياسات تقليدية تقوم على المواجهة بدلا من استراتيجيات تعاونية قادرة على تعزيز استقرار المنطقة.
من زاوية أخرى، تسعى الجزائر من خلال دعمها للانفصاليين وتوفير منصات لهم إلى إضعاف صورة المغرب دوليا، فالهدف هنا يتمثل في الإيحاء بأن المغرب يعاني من مشكلات داخلية تهدد استقراره، مشابهة لما تروج له الجزائر بشأن قضية الصحراء، إلا أن هذه المحاولة تفتقر إلى الواقعية والمصداقية، لأن قضية الصحراء المغربية تعد نزاعا مفتعلا من طرف الجزائر ولا تعكس واقع التنمية والاستقرار الذي تشهده الأقاليم الجنوبية، بالمقابل الريف المغربي الذي تحاول الجزائر توظيفه كورقة ضغط، يعد منطقة تشهد تنمية متزايدة وبرامج استثمارية كبرى، مما يجعل هذه المناورة الجزائرية فاقدة للفاعلية على المستويين الداخلي والخارجي.
الهجوم الإعلامي الرسمي: أداة تصعيدية لتبرير الفشل
الهجوم الإعلامي الرسمي الذي تشنه الجزائر على المغرب يعكس سياسة تصعيدية تهدف إلى تعزيز مواقفها العدائية تجاهه على أكثر من مستوى، فالإعلام الرسمي الجزائري، بمختلف قنواته وروافده، بات أداة مركزية في هذه الاستراتيجية، حيث يتم استخدامه بشكل مكثف وممنهج لتأجيج مشاعر العداء الشعبي وإعادة توجيه الرأي العام المحلي والدولي بما يتماشى مع توجهات النظام الجزائري.
تسعى الجزائر من خلال هذا الهجوم الإعلامي إلى شيطنة المغرب إقليميا ودوليا، فهي تقدم المغرب على أنه خصم دائم وعدو استراتيجي، محاولة بذلك حشد الدعم لسياساتها العدائية تجاهه، ويأتي هذا التوجه في سياق سعي الجزائر لتبرير مواقفها أمام الرأي العام الداخلي، حيث تقدم السياسات العدائية تجاه المغرب كجزء من «دفاع مشروع» عن القضايا الإقليمية والدولية التي تتبناها الجزائر، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية، خاصة في ظل النجاحات الدبلوماسية التي حققها المغرب على صعيد كسب الاعتراف الدولي بسيادته على أقاليمه الجنوبية، حيث يبدو أن الجزائر تحاول استخدام وسائل الإعلام الرسمية كسلاح لاستعادة التوازن في الساحة الدولية، ولو على حساب الحقائق.
إضافة إلى ذلك، يلعب الإعلام الجزائري دورا في تبرير التصعيد الدبلوماسي بين البلدين، لا سيما بعد قطع العلاقات الدبلوماسية من طرف الجزائر بشكل أحادي، فمن خلال الحملات الإعلامية المتكررة، تسعى الجزائر إلى تقديم المغرب كمصدر «للتهديدات» المفترضة التي تبرر قراراتها الدبلوماسية المتشددة، سواء أمام الشعب الجزائري أو أمام المجتمع الدولي، حيث تسعى من خلال هذه الرواية التي تبنى على اتهامات متكررة وغير مسندة بأدلة، إلى تعزيز سردية داخلية تظهر المغرب كأنه معزول دوليا و إقليميا، وتبرر الاستمرار في الخطاب التصعيدي.
لكن على الرغم من الجهود المبذولة من طرف الجزائر، فإن هذه الاستراتيجية الإعلامية تنطوي على تناقضات كبيرة، حيث تتجاهل واقع المغرب الذي يعكس استقرارا أو تنمية متسارعة، مقارنة بالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الجزائر نفسها، وبالتالي، فإن هذا الهجوم الإعلامي، بدلا من تحقيق أهدافه، يكشف في جوهره عن قلق النظام الجزائري من النجاحات التي يحققها المغرب على المستويين الإقليمي والدولي، كما يظهر افتقار الجزائر إلى استراتيجية متكاملة للتعامل مع التحديات المشتركة التي تواجه المنطقة، مفضلة بدلا من ذلك تبني خطاب المواجهة والتصعيد.
ماذا وراء التصعيد: أهداف وخيارات محدودة
التصعيد الجزائري تجاه المغرب يعكس حالة من الارتباك الاستراتيجي وضعف الخيارات المتاحة أمام النظام الجزائري في مواجهة التحولات الجيوسياسية والإقليمية، فبدلا من التركيز على إصلاح أوضاعها الداخلية وتحقيق التنمية المستدامة التي يطالب بها الشعب الجزائري منذ سنوات، يبدو أن الجزائر تستهلك مواردها في معارك هامشية تستهدف المغرب، دون أن تحقق مكاسب ملموسة يمكن أن تعزز مكانتها أو تبرر هذا النهج العدائي، حيث يبرز هذا النهج كدليل على حالة من العجز الاستراتيجي، تفتقر من خلاله الجزائر إلى رؤية مستقبلية متماسكة للتعامل مع التحديات الداخلية والخارجية، مما يدفعها إلى البحث عن «عدو خارجي» يستخدم كذريعة لتوحيد الصف الداخلي وصرف الأنظار عن الأزمات التي تعاني منها البلاد.
الرغبة في الانتقام تعد أحد المحركات الرئيسية لهذا التصعيد، فالنجاحات المغربية الأخيرة على المستوى الدولي، خاصة في ما يتعلق بالاعترافات المتزايدة بسيادته على الصحراء المغربية، تشكل إحباطا كبيرا للجزائر التي جعلت من دعم «البوليساريو» ركيزة أساسية لسياستها الخارجية، كما أن انفتاح المغرب على القارة الإفريقية وتعزيز دوره كجسر اقتصادي ودبلوماسي بين إفريقيا وأوروبا قد محا نفوذ الجزائر التقليدي في المنطقة، مما زاد من حدة التوترات ودفعها إلى تبني سياسات انتقامية بدلا من مقاربات تعاونية.
هذا التصعيد، رغم شدته، يكشف عن محدودية الخيارات الجزائرية، فبينما ينخرط المغرب في مسار تنموي ودبلوماسي يعزز موقعه الإقليمي والدولي، تظهر الجزائر افتقارا إلى أدوات فعالة للتأثير على هذه الديناميكيات، وبالتالي تصبح خطواتها العدائية مجرد ردود فعل غير مدروسة، تستهلك مواردها دون أن تفضي إلى أي تغيير جوهري في المعادلة الإقليمية.
المغرب: صبر استراتيجي ومواجهة محسوبة
في مواجهة التصعيدات المتكررة من الجزائر، يواصل المغرب نهج سياسة الصبر الاستراتيجي والمواجهة المحسوبة، وهو نهج يعكس نضجا سياسيا ورؤية بعيدة المدى تعطي الأولوية لتعزيز المكاسب الدبلوماسية وترسيخ مكانته كقوة إقليمية ودولية صاعدة، فالمغرب يدرك أن الرد على التصعيد بمزيد من التوترات لن يخدم مصالحه، لذا يركز على تحقيق أهدافه الاستراتيجية من خلال خطوات مدروسة تعزز شرعية مواقفه وتقوي حضوره على الساحة الدولية.
وقد أثبتت هذه السياسة فعاليتها بشكل ملموس، حيث نجح المغرب في كسب دعم واسع ومتزايد لعدالة قضيته الوطنية، خاصة في ما يتعلق بسيادته على أقاليمه الجنوبية، فالاعترافات المتوالية بمغربية الصحراء، خاصة من دول ذات تأثير عالمي، ليست سوى دليل على نجاح هذه المقاربة التي تجمع بين الصبر والمرونة، حيث استطاع المغرب تعزيز شراكاته مع الدول الإفريقية من خلال استثمارات استراتيجية ومبادرات تنموية، مما عزز مكانته كشريك موثوق في القارة وقلص نفوذ الجزائر فيها.
هذه المقاربة لا تظهر فقط التزام المغرب بمبادئ الحكمة والدبلوماسية، بل تؤكد كذلك على ثقته في عدالة قضيته واستعداده لبناء مستقبل مشترك يقوم على التعاون والتنمية، وفي ظل هذه السياسة، يتجه المغرب نحو تعزيز مكاسبه الاستراتيجية، تاركا للجزائر عبء التصعيد ومواجهة العزلة التي تفرضها سياساتها العدائية على نفسها.
نموذج التنمية والاستقرار ضد نموذج العزلة والتصعيد
تتمسك الجزائر بنموذج تقليدي متمحور حول سياسات دفاعية وعدائية تبرز المواجهة كأداة أساسية لتحقيق أهدافها، معتمدة على خطاب تصعيدي يعيد إنتاج صراعات قديمة بدلا من مواجهة التحديات الحديثة، هذا النموذج القائم على المواجهة والتصعيد يعكس رغبة في الحفاظ على نفوذ إقليمي متراجع، لكنه يفتقر إلى استراتيجية طويلة الأمد قادرة على بناء علاقات قائمة على المصالح المشتركة.
في سياق مختلف يحقق المغرب مكاسب متسارعة على المستويات الاقتصادية والدبلوماسية، تجد الجزائر نفسها أمامها عالقة في معاركها التقليدية، حيث تستنزف مواردها في دعم سياسات عدائية دون عائد استراتيجي حقيقي، والمغرب، برؤيته المتجددة، يفهم أن المستقبل يبنى من خلال التعاون والشراكة الإقليمية والدولية، وليس عبر التصعيد والمواجهة، وهو للأسف ما لم تستطع الجزائر أن تستوعبه، وبالتالي، فإن هذا الصراع يتجاوز كونه مجرد خلافات سياسية ليعكس مواجهة بين نموذجين متناقضين، أحدهما يتطلع إلى المستقبل ببناء مؤسسات وشراكات قوية، وآخر يظل محاصرا بخيارات تقليدية تجعله بعيدا عن التطور والتقدم والازدهار .
الكاتب : علي الغنبوري - بتاريخ : 27/11/2024