ماذا تريد فرنسا من مسلميها، وماذا يريدون؟

أحمد المديني

 

«العلمانية شرط حدود» رجيس دوبري لا أميل إلى الخوض في شؤون الدين، الفقهاء أجدر مني وعلاقتي بها خاصةٌ ليست للتعميم. ما عدا إذ ترتبط بشؤون الجماعة وتتحول إلى عامل حكم وتحكّم ومعيار وجود وسلوك، مقابل منظومة أكبر، مدنية وضعية، لتسيير المجتمع والاحتكامُ إليها واجبُ مواطنة ومسؤولية، تجاه مذهبية غيرها(دينية) تريد منازعتها السلطة والمشاركة، ولم لا أن تصبح البديل الجامع. لا أكتفي بهذا، فالسبب الرئيس لإثارتي للموضوع، باسم العنوان الكبير الذي ينضوي فيه أعلاه، أنه يمس اجتماعيا وروحيا عشرات الآلاف من المغاربة يسمون» مغاربة العالم» ويعيشون في المهجر الفرنسي، ومغاربة الداخل أنفسهم بحكم روابطهم مع إخوتهم المهاجرين، ولأن فئة منهم تمتلك تصورا خصوصيا، لا مدنيا، لدور الدين في الحياة والحكم والمجتمع.
وأنتقل لتبديد عنصر التباس ثان، يقفز من السؤال، هو إشكالي حقا ومصدر وسبب جدل كبير قائم منذ عقود في البلدان الغربية وفرنسا مركزيا في علاقاتها وفهمها لديانة من خارج ترابها وبيئتها المجتمعية والثقافية والدين المسيحي السائد فيها بتفرع مذاهبه، والآن موضوع غليان. هل يصح أن تبغي فرنسا مسلمين خاصين بها، بمعنى متوافقين مع مبادئها ونظام حكمها، أم هي تسميه تعني المسلمين عامة المقيمين بأرضها، مواطنين أصليين أو مجنّسين أو مهاجرين؟ سؤالٌ مركب امتحَن جميع رؤسائها السابقين بين يمين ويسار، كما انخرطت فيه الكتلة البشرية موضوعه وقوى إسلامية خارجية مؤثرة هي إحدى وجوهه وطرف في مصاعبه وتوجيهه، وتتضام فيه سرديات تاريخية وسياسية وعرقية واقتصادية بجذور وأبعاد لا مجال لتسميتها هنا، حسبنا القول بأنه يتقاطع فيها سوء تفاهم مزمن وغير قابل للحل بين الطرفين الشريكين:
لأقل باختزال شديد، بأن فرنسا كأنها تتناسى أنها أرض هجرة، هي التي شقت هذا الطريق، إذ كانت تبني إمبراطوريتها الاستعمارية أقصى شرق آسيا وبدءاً من شمال إفريقيا وصحاراها. وهي من جلب على مرحلتين آلاف اللحم البشري الأجنبي، الإفريقي خاصة، ليشارك في حروبها، ثم ليعمّر ما خربته الحرب الكونية الثانية ويعيد إدارة عجلة الاقتصاد والصناعة، ناهيك عن الأعداد الغفيرة التي تدفقت عقب نهاية الوجود الفرنسي في الجزائر. الأغلبية الساحقة من هؤلاء مسلمون، وغربتهم وظروف عيشهم القاسية، ثم تعذّر إمكانات الاندماج المطلوب والمزعوم ثبّتت الإسلام هويةً لهم وملاذا، لنا أن نضيف بأن هذا البشر الوافد استقر وتكاثر وواصل يتربى بدينه وتقاليده ويتغذّى سنويا بهجرة مضادة لبلده، ويتطور إلى جيل ثالث فرنسي بين خالص وهجين، قريب من الآباء وبعيد، متذبذب بين حداثة مطلقة، معتدلة أو رافضة، مراتب يحضر فيها الدين بلا جدال بحسب موقع أصحابها، من إسلام الفطرة إلى الملتزم إلى السلفي إلى المتطرف والجهادي. يقدر مرصد اللائكية في فرنسا (تقرير 2019) عدد المسلمين ب 4،1 مليون، أي 6 في المئة من مجموع السكان، ويحل الإسلام ديانة ثانية؛ أخذُنا بالاعتبار لهذه المعطيات يكشف إلى حد (الأمنيزيا) الفرنسية، من جهة، ومعضلتها الحالية.
أما الطرف الثاني، فهو بدوره يتخبط في تناقضات لا حصر لها، إذ يخلط بين بلده الأصلي وأرض الهجرة، هو ضيف فيها مهما طال أمد إقامته، لها قوانينها وثقافتها، وفي فرنسا المبدأ الناظم الذي يحكم الجميع هو قيم الجمهورية، في قلبها قانون1905 الخاص بتسيير العلاقة بين الدولة والكنيسة ومن ورائها الدين، بناء على علمانية الدولة، نتيجة صراع تاريخي فكري وسياسي ودموي، رأى بلد الهجرة أنه بدأ يهتز، ومع النمو الديموغرافي ومظاهر سلوك وعيش مختلف للمسلمين يحدث شروخا في بناء راسخ، ليس بسبب حرية العبادة وهي مكفولة، وإنما لما وراءها، بعد حوادث إرهاب شنيع، وتحول البلاد إلى ساحة صراع لدول ومذاهب، واصطفاف جمعيات متعددة الولاءات تتنافس على تمثيلهم فيما تتنابز بالألقاب، هم بينها رهائن لا يعرفون من خولها تمثيلهم، وفي الوقت شبه مدانين في دولة لا تعترف بخصوصية الجماعة السكانية (le communitarisme) على غرار إنجلترا وأمريكا، لكنهم يتصرفون كذلك إما من وحي شرائع وأعراف منبتهم الأصلي أو إسلام سلفي، من حجاب ونظم خاصة، يريدون ما لا يمكن إعطاؤه، علاقتهم ببلد المهجر بمفهوم حيازة الجنسية(الكواغط) فتتقاذفهم رياح الإسلاموفوبيا بين يمين متطرف وحركة هوياتية متشنجة، وتحويلهم مشجبا لتفاقم الجريمة والبطالة، وبالتالي إلى ورقة مزايدة انتخابية وجدال سياسوي في الخطابات الحزبية ومنابر إعلام متطرف كريه الرائحة تجاه الأجنبي، العربي بالذات، وكل عربي هنا مسلم من سحنته!
اليوم دقت عند الدولة الفرنسية ما تظن أنه ساعة الفصال بينها والمسلمين فوق ترابها باعتماد تشريع تريد أن يحسم في الخلاف، ل:» تقوية احترام مبادئ الجمهورية» باعتبارها الجامع وليس الأديان، والمسمى» قانون مناهضة الانعزالية séparatisme لتنظيم العلاقة بينها والإسلام في أرضها زيادة على قانوني 1905 و1901 وبغية مكافحة ما يسمى انفصالية فئة(مسلمة) والإسلاموية والإيديولوجية الجهادية؛ينص على مزيد شفافية تمويل أماكن العبادة، القصد ضمنا المساجد؛ مزيد شفافية التمويل من الخارج؛ منع أي دولة أجنبية من اقتناء أماكن عبادة، هذا إضافة إلى قرار سابق سينهي انتداب الأئمة. بينما تشرع الجمعية الوطنية في مناقشة تفاصيل القانون أقواها مظهر الحجاب، التزام الجمعيات بالجمهورية، إجبارية التمدرس، معاقبة الكراهية عبر وسائل التواصل، تم التوصل إلى اتفاق بين الفدراليات والداخلية على بنية المجلس الوطني للأئمة، استقبال رئيس الجمهورية للمجلس الفرنسي الإسلامي حيث ظهر اتفاق على نقاط خلافية كتعريف الإسلام السياسي، والمساواة بين الجنسين، وأثمر خصوصا عن الإجماع على «توافق الديانة الإسلامية مع مبادئ الجمهورية، اللائكية وتشبث مسلمي فرنسا بالمواطنة التامة والكاملة ونبذ أي استخدام سياسي وكذا تدخل الدول في ممارسة المعتقد الإسلامي». هل ستصوغ المبادئ والالتزامات حقا الإسلام الذي تريده فرنسا ويصالح المسلمون الجمهورية؟ سؤال مؤرق وطريق أشواك أمامه طويل.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 03/02/2021