محاولة في قراءة تطورات أحداث الحسيمة

لحسن العسبي

من له مصلحة في ضرب الثقة التي ولدت بين
«الحقيقة الريفية المغربية» وبين الدولة بعد 1999؟

 
في السياسة، ومصائر الشعوب والأمم، لا تقرأ الأحداث منفصلة أبدا، بل إن تجميع قطع «البوزل» تمنح دوما معنى ثاويا، غير معلن، يحتاج إلى الكشف والبروز، لتحقق الفهم واتضاح معالم الطريق أكثر، واحتمالات التطورات الآتية. وما يعيشه المغرب والمغاربة، منذ سنة ونصف تقريبا، أي منذ الخرجة الفاسدة للأمين العام السابق لهيئة الأمم المتحدة بان كيمون، بالمنطقة العازلة قرب تيندوف بالجزائر، حين لم يخجل أن يرفع شارة النصر، ويصفنا كأمة بأننا «أمة احتلال»، بكل ما استتبعه ذلك، من ردود فعل قوية على مستوى الدولة والمجتمع بالمغرب (طرد 78 موظف من المينورسو، الدخول في معركة سياسية قوية بمجلس الأمن، انتصرت للمغرب ولم تتبع هوى بان كيمون. ثم مسيرة الرباط الشعبية المليونية، التي أفاقت مارد الوطنية المغربية من جديد، بذات روح 1953 و 1975، رسالة أن مسألة استكمال الوحدة الترابية للمغاربة قضية وجود وليست قضية حدود).
أقول، إن ما يعيشه المغاربة من تطورات متلاحقة، يقدم ما يكفي من الأدلة، على أننا في مرحلة انعطافة تاريخية جديدة، في وجودنا كأمة، بذات الشكل الذي وقع ما بعد 1844 (هزيمة معركة إيسلي أمام الجيش الفرنسي المحتل للجزائر)، ثم ما بعد 1912، وأساسا ما بعد المرحلة بين 1926 و 1930 (سحق ثورة البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي بأسلحة كيماوية ألمانية، من قبل طائرات إسبانية وفرنسية سنة 1926. ثم صدور الظهير البربري ليوم 16 ماي 1930، الذي أطلق مارد الحركة الوطنية المدينية من عقاله لأول مرة). وليس خطاب العاهل المغربي بمناسبة عيد العرش، ليوم 29 يوليوز 2017، الذي هو «خطاب الأمة» السنوي، القوي في قاموسه وفي صراحته وفي نقده، سوى عنوانا تتويجيا غير مسبوق لمعنى هذه الإنعطافة، بالمعنى الإصلاحي للمشروع الوطني المغربي المتفاعل منذ أكثر من قرن ونصف. كونه يطرح سؤال عمق دولة المؤسسات سلوكيا بالمغرب، بخلفية تربوية، تسعى إلى جعل شكل التعاقد بين الدولة والمجتمع، يتأسس على مبدأ المسؤولية والمحاسبة (أي في العمق معنى قيم المواطنة المدنية، وهذه ثقافة سياسية ذات منظومة كاملة خاصة، حداثية بامتياز).
الحقيقة، أنه لا يمكن قراءة خطاب 29 يوليوز 2017، هذا، بمعزل عن خطابين آخرين للعاهل المغربي محمد السادس، هما خطاب الرياض، أثناء القمة الخليجية – المغربية، يوم الأربعاء 20 أبريل 2016، ثم خطاب أديس أبابا أمام قمة الإتحاد الإفريقي يوم الثلاثاء 31 يناير 2017. لأن الربط بين سياقات هذه الخطب الثلاث، هو الذي سيجعلنا نتلمس مدى التحديات العادية والطبيعية، التي تواجه المغاربة كأمة، كدولة، في صيرورة تطورهما ضمن فضائهما الإقليمي والجهوي والقاري، وبالإستتباع، العالمي. لأنه علينا، الإنتباه، أننا نجتاز مغربيا، شرنقة التحول من حال إلى حال، من مستوى دولة كانت غارقة في أسباب التخلف ظلت تجترها منذ القرن 17، إلى حدود نهاية القرن 20 (مرحلة خطر السكتة القلبية في خطاب الملك المغربي الراحل المرحوم الحسن الثاني أمام البرلمان)، إلى مستوى دولة طامحة بإصرار لتصبح قوة صاعدة في إفريقيا وفي غرب المتوسط الجنوبي. وضمن هذا التدافع الصعب، لنا كمغاربة، أرى إلى خطاب العرش الحالي، كخطاب للأمل، كونه يقدم رسالة مهمة أن الدولة المغربية هادئة، ترى إلى التطورات من مستوى شمولي، وأنها ليست تحت ضغط أحداث اجتماعية، عادية وطبيعية ومفهومة، بل مشروعة، مثل أحداث مدينة الحسيمة. والمغاربة، في عمومهم، كانوا في حاجة لرسالة اطمئنان مماثلة، منذ أسابيع، خاصة بسبب ما أصبح يحدثه منطق أشكال التواصل العمومية الجديدة (وسائط التواصل الإجتماعية)، من تضخيم وتشويش وقلق. بل، أكثر من ذلك، إن مناسبة أحداث الحسيمة، مثالية لتسريع آلية الإصلاح المؤسساتية داخليا، بالشكل الذي يدفع أكثر نحو ترسيم وترسيخ القطع مع منطق دولة الريع. وهذا لوحده، عنوان من عناوين التحول التاريخية الكبرى مغربيا.
قراءة أخرى في أحداث الحسيمة
تفرض علينا، هذه المقاربة الشمولية، إعادة قراءة (تريد أن تكون مختلفة)، لأحداث الحسيمة.
صحيح أنه لا يمكن فصلها عن «الحقيقية الريفية المغربية» التي لها شجرة أنساب معناها في التاريخ المغربي منذ القرن 15، أي منذ تاريخ إدارة ظهرنا كمغاربة لعمقنا المتوسطي. ما جعل أهلنا بالريف، يراكمون مع توالي السنوات ذاكرة للمواجهة مع الأجنبي ومع أسباب انعدام إمكانيات النماء التي كان يوفرها عمقها المتوسطي عبر موانئ استراتيجية مثل ميناء سبتة ومليلية وخلجان باديس والحسيمة وغيرها، ما جعلها في الكثير من المحطات في خصومة سياسية حتى مع حسابات عاصمة الإمبراطورية المغربية، التي يكون يحكمها إكراه منطق توازن القوة مع العواصم الأجنبية حينها. لكن، لا يمكن إسقاط، حقيقة أن جهات كثيرة، سياسية وجمعوية وجيلية، قد سعت أن تركب على تطورات أحداث الحسيمة، بما يخدم ما تراه مصلحتها الحيوية. من هنا تعدد التعبيرات، بين اللغوي الأمازيغي، وبين النزوع الإنفصالي، وبين النزوع الجهوي الطامح للحكم الذاتي، وبين أغلبية التوجه الوطني المنتصر لحق رفع التهميش التاريخي تنمويا عن المنطقة. وكثير من تلك التعبيرات، سعى إلى أن يجر الدولة إلى المواجهة العنيفة على مدى أكثر من 6 أشهر، ليركب على منطق المظلومية، ضمن منطق الصراع والتدافع العادي في حالات مماثلة، حتى جاء حادث خطبة الجمعة بأحد مساجد المدينة، في رمضان الماضي، الذي جعل شابا يمتلك مقومات ذكاء سياسي أكيدة، يرفع من درجة التصعيد حين قام بالمحظور، وهو توقيف إمام جمعة من إتمام خطبته، فكانت تلك زلته السياسية، التي لا يمكن بمنطق الحرص على وحدة الأمة، التجاوز عنها، لأنها ستفتح باب جهنم الفتنة مغربيا. والجواب لم يكن أمنيا، كما يعتقد، بل إن الجواب حقيقة كان في مسيرة الرباط ليوم 11 يونيو 2017، التي جرت الجميع إلى الإصطفاف وراء السقف الوطني، ووجهت رصاصة الرحمة إلى كل محاولات الركوب على أحداث الحسيمة لجعلها مقدمة لنزوع فئوي، جهوي، انفصالي. لقد اختفى منطق «الإستعمار العروبي» ليحل محله خطاب «تامغربيت». وجديا، أعتبر مسيرة الرباط، أنضج جواب مغربي شعبيا، على قوة الكيمياء المغربية في قراءة التحولات الوطنية. وحين رفعت فيها صور «الزفزافي»، فقد أعادت العدادات كلها إلى الصف الوطني العالي والسامي. وجعلت مطلب الإصلاح، ليس فئويا، بل وطنيا.
في زيارة لي منذ أسبوع إلى الشمال، وإلى منطقة الريف، أحسست أن تمة أثرا طال الثقة التي ولدت بين «الحقيقة الريفية المغربية» وبين الدولة المغربية، منذ 1999. وهي الثقة التي ولدها أساسا القرار التاريخي والإستراتيجي للدولة المغربية للعودة إلى المتوسط، بقرار ملكي وبانخراط متوثب وإرادوي لحكومة التناوب بقيادة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي. وهي العودة التي من عناوينها الكبرى، إعادة بنينة البنية الطرقية بالشمال (الطريق المتوسطي)، ثم المشروع الهائل للميناء المتوسطي ببليونش، وأساسا الميناء العسكري للقصر الصغير، دون إغفال مشروع ميناء الناظور وبني نصار القادم. وكذا تعزيز البنى التعليمية الجامعية بتطوان ووجدة، وإنشاء المستشفى الجامعي بوجدة. لقد لخص لي صديق مغربي، فقيه حجة، من الحسيمة مقيم بتطوان، الحكاية كلها حين قال لي: «نحن عمليا لم ننل الإستقلال سوى سنة 1999. من حينها أحسسنا أننا مغاربة مثل باقي إخوتنا المغاربة». بالتالي، هذه الثقة، جديا، هناك من سعى ولا يزال يسعى، لهزها هناك، ركوبا على أحداث الحسيمة. الأحداث التي تربط بالحادث المأساوي المقزز، الذي قتل فيه بائع السمك محسن فكري، والذي أظهرت التحقيقات والأدلة المصورة بالفيديو، كما يؤكد دوما وزير العدل المغربي الأسبق الأستاذ مصطفى الرميد، أنه قتل بسبب خطأ لصديقه غير متعمد، في محاولة لمنع تدمير سلعتهم من قبل السلطات المحلية، وأنه لا حضور أبدا لعبارة «طحن مو» الشهيرة. بالتالي، فالسؤال هو من له مصلحة في ضرب تلك الثقة الوليدة بين «الحقيقة الريفية المغربية» وبين الدولة؟.
ربط المقدمات بالنتائج
هنا علينا، العودة إلى خطاب الرياض، الذي أكد فيه العاهل المغربي، أن ما حدث بالمشرق العربي، من ضرب لبنية دول عربية وليس فقط أنظمة سياسية عربية غير ديمقراطية وشمولية، يخطط لنقله إلى منطقتنا المغاربية. والسبب هنا، في ما يخصنا مغربيا، كامن في روح خطاب أديس أبابا، الذي أعلن فيه عمليا، عن ميلاد المغرب الجديد، كقوة إفريقية قادمة وصاعدة. المغرب الذي يقدم التعاون لإخوته الأفارقة، عبر بوابة مواجهة أسباب العطب التنموي، الكامن أساسا في أسباب مخاطر المجاعات واستقلال القرار الإفريقي لضمان الأمن الغدائي والفلاحي. ومشاريع عملاقة مثل مشروع مصنع الأسمدة بأديس أبابا بإثيوبيا، وأبوجا بنيجيريا، عبر البوابة الإستراتيجية للفوسفاط المغربي (الذي تمت هيكلة مؤسسته الوطنية في ما يشبه ثورة إصلاحية قادها سليل عائلة وطنية مغربية رفيعة، مثل الخبير المغربي والعالمي مصطفى التراب)، ثم مشروع أنبوب الغاز بين المغرب ونيجيريا، الذي هو أنبوب غرب إفريقي بامتياز مع أروبا (يقلق موسكو كثيرا). هنا علينا الإنتباه لجملة العاهل المغربي في ذلك الخطاب التي قال فيها إن الريادة نراها مغربيا لإفريقيا وليس للمغرب. فهذا كلام زعيم جديد لقارتنا السمراء، بمنطق القرن 21.
هذه الصورة، وهذا الواقع المغربي الجديد، سيكون من الوهم الإعتقاد أنه سيتركه الكثيرون، ممن تتقاطع مصالحهم مع فضاءنا الجيوستراتيجي إفريقيا ومتوسطيا وعند مضيق جبل طارق، يمر بيسر، ليقطع خطواته بمنطق الخطو التاريخي، بسهولة. ومن هنا معنى استغلال كل جهة من تلك المصالح لأحداث الحسيمة، بما يخدم حساباتها القومية الإستراتيجية، والتي نجد عناوينها في «فرانس 24» الباريسية، وفي أغلب الإعلام الإسباني (في مقدمة مشهده كتابات الصحفي إنياسيو سامبريرو)، ثم الإعلام الجزائري في غالبيته. ومرة أخرى، نجد أن الشبكة المتياسرة في مختلف الفضاءات الأروبية، سواء في هولندة أو بلجيكا أو مدريد أو باريس أو روما، هي التي ترفع الشعار المشكك في صلابة الإستقرار بالمغرب، وهي تتقاطع في ذات العواصم مع جزء من التيارات الإسلاموية التي لها تنازع سياسي تنظيمي مع الدولة، حتى داخل المغرب (في بلجيكا هناك حتى التيار الشيعي بالمرجعية الإيرانية، المحدود التأثير).
لكن، لنتأمل أفقا آخر للمشهد المغربي في شموليته.
لقد بادرت مؤخرا، الدولة المغربية، بعد تأخر طال أكثر من اللازم، منذ سنوات، إلى اتخاد قرار تاريخي بترسيم حدودها البحرية الدولية في منطقة الصحراء الغربية للمغرب، بما يتوافق تماما مع القانون الدولي. وهو القرار الذي جاء بعد التطورات التي عشناها لشهور، ضمن ما عرف ب «أزمة الكركرات» التي كان هدفها جر المغرب إلى مواجهة مع جبهة البوليزاريو وموريتانيا، لتعطيل عودته إلى الإتحاد الإفريقي، كي لا نصل إلى روح خطاب أديس أبابا. بل والسعي إلى تدويل غير مسبوق للقضية المغربية، عبر بوابة مجلس الأمن. وهي المعركة التي أدارتها الدولة المغربية بهدوء وبحنكة عالية لعقل منطق الدولة المسؤولة. فانتقلت المعركة إلى مواجهة ورقة القوة المغربية عالميا وإفريقيا، وهي ثروته الطبيعية من الفوسفاط (ملف السفينة المحتجزة بحساب سياسي مثير ومستفز من دولة جنوب إفريقيا، التي أصبحت أشد خصومنا، بسبب إحساسها بقوة المنافسة المغربية فعليا لها بقارتنا السوداء).
إن قرار ترسيم المياه البحرية الدولية للمغرب، ملف ليس بجديد، وهو يقلق أساسا جارتنا إسبانيا. وحين نقول إنه ليس بملف جديد، فلأنه يعود إلى سنة 1981، حين بادرت المعارضة الإتحادية بالبرلمان المغربي، في شخص رئيس فريقها آنذاك، الدكتور فتح الله ولعلو، إلى تقديم مقترح قانون لترسيم الحدود البحرية الدولية للمغرب، من 12 مايل فقط، إلى 200 مايل (حوالي 300 كلمترا)، استنادا إلى ما سبقت إليه دول أمريكا اللاتينية حينها، وقبل ضمن منظومة القانون الدولي للبحار. وهو المشروع، الذي فرح به كثيرا حينها رئيس البرلمان المغربي المرحوم الداي ولد سيدي بابا (الموريتاني الأصل)، وتحايلت عليه الحكومة المغربية، من باب رفض تبني مقترح للمعارضة، فجاءت بنص قانون ادعت أنه جديد، بينما الحقيقة، أنه نفس نص المعارضة الإتحادية، عدلت فقط من فقراته، بشكل بليد كان سيضر بالمصالح الوطنية، من خلال محاولتها تقديم المصلحة الدولية على المصلحة الوطنية، قبل أن تقع تدخلات بإلحاح من الدكتور ولعلو، لإنقاذ وجه المغرب من فضيحة قانونية أنذاك.
وكما حدث حينها، مع ذلك القانون، فإن مدريد متوجسة منا اليوم بسبب القرار الجديد، لترسيم الحدود البحرية لمنطقتنا الصحراوية. وأن هذا تزامن أيضا، مع ما أعلنه العاهل الإسباني فيلليبي السادس، بالعاصمة البريطانية، يوم 12 يوليوز 2017، من يقينه بقرب إيجاد حل لقضية جبل طارق، وعودتها إلى السيادة الإسبانية. وهو الملف الشائك بغرب المتوسط، الذي سرعه قرار البريكسيت، بمغادرة بريطانيا للإتحاد الأروبي، مما يجعل صخرة جبل طارق عمليا خارج الإتحاد الأروبي. وإذا حل هذا الملف الإستعماري القديم، بذات الشكل الذي تم مع الصين بخصوص هونغ كونغ، فإن ذلك سيفتح الطريق معبدة لفتح ملف استعادة المغرب لسبتة ومليلية (وسبتة أكثر)، لأن القوى العالمية الكبرى، خاصة واشنطن وموسكو وبكين، لن تسمح قط أن يستفرد الإتحاد الأروبي بالتحكم في مضيق جبل طارق شماله وجنوبه، مثلما لن تسمح قوى أروبية، خاصة فرنسا وألمانيا، لإسبانيا أن تستفرد بالتحكم في ذلك المضيق شماله وجنوبه، لأنه سيجعلها أقوى دولة جيوستراتيجيا، حينها، بأروبا.
على سبيل التركيب

إن تجميع كل هذه العناوين، هي التي تجعل تطورات الواقعة المغربية، من خلال أحداث الحسيمة، تؤكد أننا في مرحلة انعطافة تاريخية مغربية جديدة، بحسابات القرن 21. فهل يدرك العقل الجمعي للمغاربة ثقل هذه التحديات؟. إنه السؤال الوطني الذي يواجهنا جميعا، أفرادا وجماعات سياسية وجمعوية وعائلات فكرية. وأين موقع «الزفزافي» من ذلك؟. هذا سؤال الضمير الوطني. ربما أكثر من ذلك، هل نستشعر أننا أمام دورة تاريخية، جديدة، دخلناها مغربيا؟.
لأنه السؤال الكبير الذي تلزمنا بطرحه الأحداث غير البسيطة، التي تعيشها بلادنا. ولعل أول علامات تلك الدورة، أنها تقدم ملامح لانعطافة جيلية في المجتمع وفي الدولة. لكن، المثير، إن لم نقل، المقلق، كما لو أنها انعطافة تتم بدون ذاكرة.
فبعض الخطاب المعبر عنه، في الدولة وفي المجتمع، فيه الكثير من الإنفعال وأنه بدون بوصلة. وظهر منذ أسابيع، قبل الخطاب الملكي، كما لو أنه هناك فقط «فائض قيمة من العنف في اللسان»، لا يفضي عادة سوى إلى «آرواس»، حين يكون صادرا عن فراغ في الرؤية والمعرفة وهوية الإنتماء.
حقا، أمام يأس الواقع، هناك دوما تفاؤل الإرادة. لكن، علينا الإنتباه أنه في ما بين 1830 و 1844، أي بين سنة احتلال الجزائر من قبل فرنسا، وهزيمة المغاربة في معركة إيسلي أمام ذات الجيش الفرنسي الإستعماري، ولد جيل مغربي جديد، حمل هم الإصلاح في الدولة وفي المجتمع بالمغرب الأقصى. وفشل ذلك الجيل في مسعاه على امتداد القرن 19، مما فتح الباب لتسهيل تدويل القضية المغربية في مؤتمرات مدريد (سنة 1880) وبرلين (سنة 1884) والجزيرة الخضراء (سنة 1906)، التي مهدت الطريق لاحتلال المغرب وتقسيمه بين حسابات استعمارية متعددة (لاتزال تبعاتها قائمة إلى اليوم، في ملف الصحراء الغربية للمغرب، وفي ملف سبتة ومليلية المحتلتين والجزر الجعفرية).
وفي ما بين 1912 و 1947، أي بين تنفيذ معاهدة الحماية والتقسيم الإستعماري للتراب المغربي، وبين خطاب طنجة يوم 9 أبريل 1947، ولد جيل مغربي جديد، في الدولة وفي المجتمع، هو جيل الفكرة الوطنية وطموح الدولة الحديثة، دولة المؤسسات والقانون والحريات. وهو الجيل الهائل الإستثنائي الذي أنجبته تربة المغرب خلال القرن 20. بسقف الصراع فيه بين «قوة المجتمع الناهض» و»قوة الدولة التي تريد إعادة تأسيس ذاتها»، لكنه صراع أنتج نخبة في الدولة والمجتمع، ظل سقف «الوطن» عاليا عندها كقيمة، تلزم بتنازلات وتوافقات، في هذا التدافع والإمتحان أو ذاك.
اليوم ونحن في نهاية العقد الثاني من القرن 21، هناك ملامح لجيل جديد. بملامح تحديات جديدة، برؤية جديدة، يخشى أنها «متغولة» في الرؤية وفي السلوك. الرؤية للذات وللجماعة، كما يبلورها السلوك التراكمي في واقع هذا الجيل الجديد. مما يجعل السؤال كبيرا: ما الذي سيدونه عن نفسه، هذا الجيل الجديد، في التاريخ؟.
جديا، يخشى أن يكون مثل جيل القرن 19. جيلا بدون بوصلة مدركة لمنطق التاريخ، كونه يصر سلوكيا، وعلى مستوى الخطاب، على قطع الجدور قيميا مع جيل الفكرة الوطنية، وأن الحسابات الجهوية هي الغالبة. وأنه نسي دروس تاريخه القريبة جدا، حين انتصرت فكرة المحميين على منطق الدولة حينها، وحين ارتهنت الزوايا الدينية لباريس أو لندن في القرن 19، ما قوض وجود الدولة المغربية وليس النظام السياسي فقط. واتضح، بعد فوات الأوان، أن العطب كامن في «نوع الإنسان» المغربي، ذاك الذي كانت تصنعه بنيات متهالكة للتعليم وإنتاج المعرفة والقيم.
أليس اليوم، مثل البارحة، حيث عطبنا الكبير في «نوع الإنسان» المغربي، الذي تصنعه وسائط التربية الاجتماعية، من مدرسة وأسرة وشارع وإعلام؟.
«تمغربيت» مسؤولية، في الدولة وفي المجتمع. والقرارات الكبرى يصنعها الرجال العظام.

الكاتب : لحسن العسبي - بتاريخ : 02/08/2017