مخاصِمون للداخل، ومهرِّجون في الخارج !

  أحمد المديني

 

من البداية لا تسألوني من هؤلاء؟ وأين يقيمون؟ ولا تتلفتوا يمينا وشمالا كأنكم المعنيون، أو يقول واحد بينكم هل يقصد واحدا منا بالذات، أم كدأبه ما زال يهوى اللعب بالصفات؟ لا تسألوني، فقد تلجلج السؤال في صدري طويلا وقلت تقاسموننيه، ثم وجدت له مخرجا أن أطلقه في الهواء مثل نداء لعلهم يسمعون، وإن أشك سيَعون.إنهم حقا مُحَيِّرون، وهم، أيضا، مُحَيَّرون، وإن حسموا أمرهم، في النهاية.هم أذكى منّي، منّا، لأنهم وصلوا، أظن («إلى مدينة أين؟»لسركون بولص) .عرفوا كيف (يصلون) بعد غرق مؤقت، إلى شط أمانهم، حيث قمة الهاوية.عندهم، ليس أفضل من التوفر على قاربين، إذا غرق واحدٌ قفزوا بخِفّة بهلوان إلى القارب الثاني، لا تستخِفّوا بهم، لمّا كنا على الفطرة هم كانوا بفطنة يتدرّبون.إنهم أذكياء، شبه أبطال في رواية شطارية( بيكاريسك)، فما داموا اقتنعوا في نهاية المطاف بأن الحياة،والسياسة، والقيافة، والضحكة، كالعبارة حسب المقاس، بتطريز الثقافة والأدب، وتكشير الوجه بملامح الغضب؛ هذا كله كان مغلفا بسيلوفان النضال، لم يدخلوا إلى مضماره إلا كلعبة، وإن بإتقان ومراوغة، وبالطبع، بمردود مُجزٍ، ما همّ أن يقال إنه مخزي، في المغرب يقال الطرز على وزن (الطنزـ التهكم)هكذا اللعب، أو فدع. وما العمل، وهم منا، من لحمنا ودمنا وتاريخنا، أقصد كانوا، يوم جمعتنا سفينة واحدة بربان عتيد لم نكن نخشى الغرق، كنا وقتها غرقى، وأجمل مُنانامَنيّةٌ حمراء، يوم كان للموت معنى يقود إلى حتف الشهداء. ثم إذ طفونا أشلاءً على سطح الدماء، ورأوا أعضاءنا ـ للمناسبة كانوا مثقفين عضويين، عندهم غرامشي عبادة ـ وكيف أنّا (أكلْنا الضّبَّ من سَغَب) ولم نشك من الجوع، وعفنا أن نمدّ اليد ونحن من الهلاك في القاع، شممنا أعلى من أنف ذوي الباع، الذين منا قلبوا لنا ظهر المجن، رمونا بالسذاجة وحتى جهلنا الخبرة بالكياسة وألاعيب السياسة، بأنّا لا نفهم أن كل شيء بات يُشرى ويُباع، وهكذا، ضعنا في مأدبة اللئام، وحوّلونا إلى سقط متاع.
أجل، تبدلت الأحوال، انتقلنا من قرن إلى قرن جديد، ورحل عمالقة الزمن الوطني، والقومي، سمّوه القومَجي،كلاهما مفهومٌ تبدّل زال بل وابتُذل، وجيل وراء جيل، من حقه أن يغيّر جلده كالثعبان ويصنع الأنسب لزمنه وعيشه، بيد أن هذا ليس مدعاة للكفر ومسخ القيم المؤسسة التي نهض عليها بنيان فكرنا والتزامنا، وبها لنا شرعية الوجود في تاريخنا رغم الخسارات والانكسار، فلا يمكن مثلا أن يصبح اليمين واليسار سيّان، ولا أنك تعدل في الميزان رجحان كفة الوصولية والسّخرة والكسب الرخيص، على كفّة وطنية ملزمة للجميع وحقوق لا تقبل المساومة ولا التأجيل إلى غد القيامة وردع كل الفاسدين. وهو خطاب يفترض أن تؤمن به النخب المؤمنة بالإصلاح والديموقراطية والموصوفة بالتنوير قبل غيرها، وأن تعضّ عليه بالنواجذ بأي تكاليف، من هذا ما هو موجود من حسن الحظ عند بعض رغم العنت والتدجين يطولان قسما من هذه النخب، بينما منها كثيرمما صار يُشرى بشروي نقير، وبعضه الآخر في بورصة ما فتئت أسهمها تنهار، فما بالكبان تقال كالهذيان من الماركسية اللينينية إلى البودشيشية.
بيد أن المفارق حقا هو وضع الفصام الذي آلت إليه في جدل التوتر بين المبدأ ورغبات، أم شطحات الذات، أحوال بعض الذوات، في كيفية الحفاظ على ماء الوجه المكفهِرّ صوب الداخل(الوطني) والثبات على المبدأ(كذا) والانقباض، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، أو طمعا في(توبة نصوح) وما أصعب النظر إلى المرآة في الصباح، وأنصعُ مرآة تردّ السّحنة هي عيون شهود عيان ينعكس عليها حساب مواقف أمس واليوم ـ أنا مرآة كم من قامة مسخ تحب أن تهشمها كي لا تشعر بالخزي والعار! ـ هكذا تُكابر فتبدو ثابتة على (الموقف)، بأنصع الكلمات، وأقوى تلك الرطانات، من قلب الداخل الموصوف نظامُه ومؤسساتُه وناسُه بأرذل الصفات؛ لكن، في الوقت نفسه، ثمّة الوجه الآخر هو الصفاقة بعينها، أن ديموقراطيي الداخل، في طول عالمنا العربي، والمنكفئين في قواقع صمت مريب لا يجدون غضاضة في الانتساب والحضور في مواقع في خارج على النقيض تماما لما يفترض أنه به يؤمنون، وعن ملته لا يزيغون، تراهم لا يحتاجون إلى تسويغ، وكأن الناس عُمي أو مغفلون، رغم أنهم تكبدوا مشاق العمر، وراهنوا على الزلازل والبراكين، يرتمون في أحضان الدكتاتوريات والعشائريات، ولا يشبعون من خذ وهات، وهي تلهو بهم، تدجّنهم حيوانات أليفة في سيرك البهلوانات(للحقيقة كانت لديهم مؤهلات سابقا، شكلا ومضمونا)، ولمن شاء تقول، انظروا ماذا نفعل بأؤلئك الديموقراطيين والعضويين، أخصَوا أنفسهم بأنفسهم لم يكلفنا ذلك سوى قليل من حفر الرمل… وللعفّة أكتفي بهذا القدر، سمعت ألبير كامو يفطنني بما قاله في موقف شبيه أقتطف منه الأمثل: «في قديم الزمان كان ثمة حكيم صيني يلتمس دائما في أدعيته أن تجنبه القدرة الإلهية العيش في حقبة مهمة، وبما أننا لسنا حكماء، فهذه القدرة لم تجنبنا ذاك المصير. وها نحن نعيش حقبة مهمة على كل حال، فهي لا تقبل أن نتمكن من التخلي عن الاهتمام بها، والكتاب يعلمون ذلك. وهم إن تكلموا تعرضوا للنقد وهوجموا، وإن تواضعوا لزموا الصمت، ولن يخاطبهم أحد إلا عن صمتهم، ليلاموا بصخب»وكما علمتني يا معلمي فأنا لا أبلع لساني، لن أصمت!

الكاتب :   أحمد المديني - بتاريخ : 23/12/2020