مغرب ممتد يحكمه ملوك مؤرخون 2
خلال مصطفى
…ذلك أن عمق وعي المغاربة بتاريخهم يقوم عندهم على ثوابت لا تتأثر أبدا لا بالموانع ولا بالصوارف التي تحملها الدهور والأحقاب. ومن هذه الثوابت المرتبطة بعمق وعي المغاربة بتاريخهم نقدم لك أمثلة منها فقط، لعلها ترشدك بمبناها وبمعناها، وهي في فكرنا نحن، ليست سوى أمثلة نقدمها لك للاستعاضة وليست محصورة فيها وحدها: أ- ففي 11 فبراير من العام 1920 وباقتراح مما كان يسمى مدير التعليم أصدر الوزير الأعظم مرسوما وزيريا تم بموجبه إحداث معهد الدراسات العليا المغربية. وكما ترى نحن هنا في لحظة الحماية الفرنسية. وقد جاء في خطاب تدشين المعهد عبارات تعلي من قيمة المستعمر وتحتفي بتاريخه الكولونيالي، غير أن ذلك الخطاب لم يستطع محرره أن ينكر خطورة شأن الوعي المغربي – الأصل، فاعترف بجلال ذلك التاريخ، وبأقدميته المبهرة، وبتاثيره القديم في أوروبا نفسها. ب – وفي العام 1978 جاء في خطاب الذكرى الثالثة للمسيرة الخضراء التي أبدعها أحد هؤلاء الملوك المؤرخين كما نسميهم في مقالتنا هذه، وهو هنا وفي هذه الحالة تحديدا، حالة الوعي بخطورة الشأن التاريخي، الملك الراحل الحسن الثاني، جاء فيه: أحضروا المصحف لنقسم جميعا قسم المسيرة. ونستسمح القارئ في أن نثبت له نص هذا القسم، ليس للتأكيد فقط، بل للتاريخ ذاته: ((أقسم بالله العظيم أن أبقى وفيا لروح المسيرة الخضراء وأحافظ على وحدة التراب الوطني من البوغاز إلى الصحراء وأن ألقن أسرتي وعترتي وأن أحافظ في سريتي وعلانيتي على روح المسيرة والله الرقيب على حسن طويتي)). وإذا كنا نسلم أن الجزائريين – الحكام والإسبان اليمينيين والانفصاليين المغاربة من بعض الصحراويين لا يعون هذا وخطورته ولا يتأملون الكلمات المشحونة بالمعاني الملزمة والإلزامية والإطلاقية ذات الديمومة الدهرية، فإننا نعرف كل المعرفة وعي المغاربة بالدلالة التي يحملها النص وعباراته المدروسة بعناية فائقة. وذلك لأن محرر النص كان يخاطب تاريخ شعبه مثلما كان يخاطب التاريخ بإطلاق. والمغاربة إذ يعون كل هذا، يذكرون وسيظلون يذكرون أن ملكهم ‹›المؤرخ›› قال لهم إن مشكل الصحراء سيظل قائما وسيظل المغرب دائما محسودا وفي كل مناسبة سيخلق بوليساريو جديد.. يردد المغربي هكذا في دواخله أن يده ويد من يخلفه مربوطة إلى قسم المسيرة..
ويخطئ من الأجانب من يظن أنه في كل ذكرى، وقد راح مبدعها إلى بارئه، لا يسترجع المغاربة مع كل ملك روح المسيرة. ونحن إذ نورد لك هذا نعرف أنه لن يوجد من جيران المغرب التاريخي نبهاء ينتبهون إلى أن من شاركوا في المسيرة والتي كانت تطوعا لا إلزام فيه، لم يكونوا فقط من عموم الشعب. ففي 2006 في إحدى الندوات حول ثقافة حوض البحر البيض المتوسط، قال لنا أحد المشاركين الإسبان ونحن في جلسة على هامش تلك الندوة: إنه لم يشارك في المسيرة غير الرعاع من الجياع. ولأنا كنا نعرف تخصصه في التاريخ، ونعرف أنه من العارفين المطلعين على أحوال بلدنا، قلنا له: وهل العروي ( الأديب المغربي والمؤرخ والمفكر وعالم اللغة والحضارة العربيتين ) من الرعاع؟ اندهش المثقف الإسباني وبقي فوه فاغرا ونحن نورد له أن العروي راح وسجل نفسه في لائحة المتطوعين للمشاركة في المسيرة الخضراء.
ونحن إذ نحلل معك ذاك المبنى وذاك المعنى من وعي ملوك المغرب بمنطوق التاريخ، فإنه لا يغيب عن ذهننا أن جيران المغرب الذين نعالج في هذه المقالة غياب الوعي لديهم بالشرط الإنساني المغربي المتجذر في التاريخ، أن فروقا كبيرة جدا في التجربة كما في الثقافة تفصل بينهم وبين المغرب.
لندع شأن الجزائر، لأنه واضح كل الوضوح في عدائيته وفي خلفياته وفي غاياته، ولنثر انتباهك فقط إلى مسلك الإسبان. ففي العام 1978 واصلت الصحافة الاسبانية هجومها على المغرب، وكان ذلك لإخفاء السياسة الرسمية لدولتها. فقد اعترف الحزب الحاكم آنذاك ومعه حتى المعارضة بتمثيلية البوليساريو. وتم ذلك للإشارة إلى أن إسبانيا يمكن أن تتخلى عن الاعتراف باتفاقية مدريد. ولم يعلن عن ذلك بصراحة خشية انتقام المغرب، بل استعملت تعابير ملتوية وكلمات مقصود غموضها. أليس هذا هو ما جرى ويجري بصورة مختلفة وبمسؤولين مختلفين في اللحظة التي نعيشها هذه الأيام.
إننا لا نرى الشيطان يسقط مع كل هبة ريح قادمة من الشرق، حيث الجزائر، ومن الشمال حيث إسبانيا. لا . غير أننا نرفض ألا نسترشد بالتاريخ. تماما مثلما نرفض ألا يتحصل المغرب كل وسائل القوة والمنعة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والتنموية. للمغرب جيران الداء، هذا واقع لا يرتفع. وقد حللناه في هذه المقالة. واقع تفرضه الجغرافيا، يضيئه التاريخ الأقدم والقديم والحديث والحادث، وقد بينا بإيجاز شديد ومكثف الإشارات والتلميحات بكل دلالاتها آملين أن تدرك أبعاد مغازيها.
الكاتب : خلال مصطفى - بتاريخ : 29/06/2021