من العولمة إلى الكوكبية (2)

مصطفى خُلالْ

 

انتهت أشغال (كوب 26) المنتهية منذ ثلاثة أيام في كلاسكاو إلى قرارات جد متواضعة . هكذا أبقى الأغنياء على نفس نهجهم تجاه الدول الضعيفة الذين كما في كل منتديات الـ (كوب) السابقة أحبطوا ..مرة أخرى. نتمنى أن يتفق الأغنياء والضعفاء من الدول في ال(كوب) القادم بالقاهرة كما تقرر في نهاية الأشغال، من أجل التخفيف من آثار الأضرار الكارثية كما وصفها الأمين العام نفسه للأمم المتحدة وهو يعلق على ضعف وتواضع القرار الصادر عن الـ (كوب 26)، أضرار يلحقها الأغنياء والضعفاء معا بكوكب الأرض.
…إنه إذا كانت العولمة كنظام اقتصادي يطبعه الصراع التجاري بين الدول ، صراع يستفيد فيه الأقوياء ولا ينال منه الضعفاء سوى النزر اليسير فإن (الكوكبية) ليست نظاما له خصائص ومميزات، بقدر ما هي محاولة جادة لتبني إجراءات وقواعد والتزامات مشتركة بين الدول في التعامل مع قضايا البيئة وخاصة ما يتعلق بأهداف مرقمة تشمل الانبعاث الغازي في (الأرض). تتأسس هذه الإجراءات والقواعد والالتزامات على مبدأ يقول إن (الأرض) ملك مشترك للجميع، وأن طرح (القضايا البيئية) التي تخص هذا الملك تعني الجميع. وتفيد كلمة (الجميع) هنا أنه لا مجال للحديث عن (أقوياء)) و(ضعفاء) مادام الأمر يتعلق بملك مشترك يقتسمه كل سكان (الأرض) مهما كانت مرتبتهم في (القوة) وفي (الضعف). ذلك أن الأضرار التي يلحقها البشر بـ (الأرض) تمس الجميع :الملوثون أكثر للكوكب والأقل تلويثا له.
والحق أن الوعي بخطورة الفساد الذي يلحقه بنو الانسان ب (الأرض) وعي قديم قدم العقائد الدينية نفسها إلى درجة أن الكتب المقدسة السماوية وغير السماوية تتحدث عنه في آيات دالة على فساد الإنسان في الأرض. ولو أردنا سرد تلك الآيات سواء في التوراة أو الإنجيل أو القرآن فقط لطال ذلك كل حيز هذا المقال.
غير أن (الكوكبية) مصطلح جديد كل الجدة. فقبل أن تصل الدول الموقعة على الاتفاق – الإطار لمنظمة الأمم المتحدة في ملتقاها العالمي الـ 26 بأيكوسيا بالمملكة المتحدة والمنعقد ما بين فاتح نوفمبر و12 منه في العام 2021 الجاري، كانت قد نظمت ملتقيات في نفس الموضوع، موضوع التغيرات المناخية.وهي الملتقيات التي يصطلح عليها في لغة الأمم المتحدة بـ ((الكوب))، والذي هو سلسلة من العهود الدولية حول ((أهداف )) تلتزم الأطراف الموقعة على تحقيقها بخصوص التغيرات المناخية والبيئية.
وإذا كان الفكر الفلسفي وخاصة الدوائر العلمية في العام 1980 في العالم هما أول من تنبه لمصير (الأرض)فشرعا يطرحان خطورة التغير المناخي وتأثيره على مصائرالإنسان، فإن الساسة وعموم المسؤولين عن تدبير شؤون الدول لم يتبنوا تحذيرات الفلاسفة والعلماء في وقت مبكر. فكان ينبغي انتظار ملتقيين ، ملتقى يونيو 1992 ثم مارس 1995. كان الملتقى الأول في (ريو دي جانيرو) حيث انتظم قادة دول وليس كل الدول، فتميز اللقاء خاصة بخطاب الرئيس الفرنسي الراحل، الاشتراكي ، (فرانسوا ميتران)، مثلما تميز اللقاء الثاني (في برلين) بما عرف بالفتح الدبلوماسي الأول في تاريخ ألمانيا التي لم تكن وزيرتها في البيئة آنئذ، سوى المستشارة الحالية (أنجيلا ميركل) إذ هي من تكلفت من الأمم المتحدة بتنظيم الـ (كوب 1). وطبع هذا الملتقى صراع حاد بين الأغنياء والفقراء الذين طالبوا بالتشبث بحقهم في التنمية الاقتصادية لبلدانهم، وما زالوا على هذا المطلب إلى اليوم، وهو ما يعني مطالبة الفقراء بأن من يجب عليهم التخفيض من الانبعاث السام هم الدول الصناعية باعتبارها الأكثر تلويثا ل(الأرض).
نبه الفلاسفة والعلماء إلى المخاطر التي يمكن أن يقود إليها وضع بيئي يتسم بالاحتباس الحراري ومخاطر ثقب الأزون مؤكدين أنه إذا ما لم يتم تدخل صارم باتخاذ إجراءات عملية وملموسة فإن مضاعفة أكسيد الكربون في الجو في العام 2050 سيقود لا محالة إلى كوارث خطيرة تضر بالإنسان ككل حيثما وجد وبدون تمييز تماما مثلما يحدث في أزمنة الأوبئة حيث لا تمييز بين مراتب الدول في القوة أو في الهشاشة.

وعلى هذا النحو تابع المفكرون سلسلة من المنتديات الفل وعلى هذا النحو تابع المفكرون سلسلة من المنتديات الفلسفية والعلمية في السبعينيات وعقد الثمانينيات من القرن العشرين، ستبقى ثابتة البداية فيها مع الفيلسوف الأسترالي (ريشار روتلي) كما سنشير ثم مع لقاء (فيلاش) ب(النمسا) حيث ألقى السويدي (بيرت بولان) محاضرة انتشرت على نطاق واسع في الأوساط العلمية والفلسفية وكانت تهدف إلى جعل أصحاب القرار السياسي يتوقفون للحظة، وذلك ليستمعوا لصوت مختلف اختلافا كليا عن تصورات السياسي، صوت العقل العلمي والفلسفي الذي لا يكتفي بدور محدود، خطابي وظرفي في الغالب، على النحو الذي يقوم به الناشط السياسي، بل يحذر من مخاطر مؤكدة، مبرزا الأسباب وشارحا النتائج وواضعا العلامات البارزة على مدارات المستقبل البشري تخص الملك المشترك للبشرية: أمنا المشتركة ، (الأرض). وهو ما حصل بصورة أو بأخرى. فقد استمع الكبار، ذوو القرار، المتحكمون في السياسة ، للصوت وهو ما كان وراء تأسيس (مجموعة الخبراء لتطور الطقس) التابعة ل(جي 7) زمان حكم تاتشر و(فرانسوا ميتران) و(ريغن) الذين ساندوها .
صوت العقل الفلسفي والعلمي ذاك والذي تصح العودة به كما قلنا إلى العام 1973مع الفيلسوف (ريتشارد روتلي) . فمعه نسجل بداية تفكير فلسفي وأخلاقي يخص البيئة تحديدا مثلما يخص علاقة المجتمعات البشرية بالكوكبية من حيث هي روابط وجودية مسترسلة في الزمن ومترابطة عضويا مع المكان والفضاء اللذين يحكمان وجود الإنسان كإنسان دون اعتبار أي من المياسم الثقافية الخاصة. ثم برزت أسماء فلسفية أخرى في بلدان غربية عديدة. غير أن الأهم هو أنه انطلقت مع الفلسفات البيئية حركة واسعة ما يزال نشاطها مستمرا يتقوى في كل عقد من الزمن الجاري، وسيتقوى أكثر فأكثر بفضل الوعي بالكوكبية، حركة ظهرت فيها مجلات ودوريات ومنتديات ومؤتمرات ومؤسسات ومنظمات وجمعيات من كل صنف.
وإذا كانت الفلسفة تطرح وبحدة البعد الأخلاقي عموما في الدفاع عن الكوكبية ، والذي يمكن الرجوع به بصورة أو بأخرى حتى إلى الفيلسوف الألماني (أيمانويل كانْت) في القرن الثامن عشر، فإن الجوانب القِيمِية (من القِيم) خصوصا ، تضعنا ، كحيوانات تعقل الوجود والتاريخ، وجها لوجه أمام مسؤولياتنا الأخلاقية كآدميين مرتبطين ارتباطا وجوديا بكوكب الأرض . وهو ذا ما يجعلنا نرى، انطلاقا من كل ما ذكرناه بإيجاز شديد في هذا التعريب لمقالتنا، أنه حان الوقت لدمج حقوق الكوكبية مع حقوق الإنسان. ذلك أننا نرى أنه لم يعد كافيا للتقدم في موضوعة وقضايا الحقوق الخاصة بالإنسان، الاقتصار عليها وحدها في النظر وفي المسلك معا. فإذا كنا اليوم نُجَرِمُ كل من يلحق ضررا بحقوق الانسان فإننا مطالبين أيضا بتجريم كل من يلحق ضررا بالكوكب، بالطبيعة، بالبيئة. نعم، إننا لنطرح السؤال: فإذا كان الغرب يقدس حقوق الإنسان، فلماذا لا يقدس حقوق الكوكب وهو من يلحق به أضرارا خطيرة أمسى هو نفسه يعترف بها.

الكاتب : مصطفى خُلالْ - بتاريخ : 16/11/2021