أحفاد بن بطوطة التائهون في الأمازون

عبده حقي

لم تعد قوارب الموت تغريهم بالوصول إلى ضفة الفردوس المفقود ،ولا الاختباء في أحشاء الشاحنات العابرة للقارات لتنقلهم سرا إلى طرقات وموانئ إسبانيا ، لم تعد تجديهم كل حيل الهجرة هذه بأخطارها وأفكارها الانتحارية للهروب من رحى البطالة القاسية والفراغ اليومي …
لقد شرعوا منذ سنوات قليلة يوجهون بوصلاتهم نحو أمريكا اللاتينية بعد أن سئموا من طرق أبواب القارة العجوز التي باتت الهجرة إليها حلما بلا عنوان منذ اندلاع ثورات الخريف العربي وفوضاها الهدامة ، وتصاعد تهديدات التنظيمات الإسلامية المتطرفة وتفاقم الأزمات الاقتصادية العالمية .
عشرات الشباب المغاربة الذين حزموا حقائبهم الظهرية وهم لا يملكون من معدات لرحلاتهم المجهولة غير جوازات السفر وهواتفهم النقالة وحفنة من النقود تكفيهم بالكاد لحجز تذكرة طائرة للتحليق غربا عبر المحيط الأطلسي إلى دول أمريكا اللاتينية وخصوصا البرازيل البلد المنفتح على جميع الجنسيات والأعراق والديانات .. بلد التسامح والليبرالية الاقتصادية والمبادرة الحرة .
لقد تعددت اتجاهات الرحالة المغاربة منذ القرون الوسطى إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والشرق العربي و الشرق الأقصى، إما بحثا عن قبس نور في مزارات الأنبياء أو نفحة من كرامات الأولياء، أو طلبا لعلوم الفقه والشريعة، أو بحثا عن كنوز الثروة والتجارة . غير أن قليلا من هؤلاء الرحالة القدماء من دونوا يوميات رحلاتهم بعجائبها وغرائبها، بعد أن استقروا في بلاد المهجر أو بعد عودتهم إلى أرض الوطن مثل ابن بطوطة و محمد الصفار التطواني وابن جبير والشريف الإدريسي وابن سعيد المغربي وابن رشيد السبتي والحسن الوزاني وصولا إلى المؤرخ الكبير ابن خلدون..
لكن هؤلاء الشباب المغاربة الرحالة الجدد تختلف مقاصد مغامراتهم في جغرافية وأدغال الأمازون .. مسافرون ليس لهم من زاد كما أسلافهم غير حلم واحد ووحيد هو الانفلات من آفة البطالة وطاحونة الفراغ اليومي مهما كانت تكلفة المغامرة .
لقد أصبحت هذه الهجرة تشكل ظاهرة جديدة في أدب وثقافة الأسفار وتدوين حياة الاغتراب ، بما يميزها عن تجارب الهجرات السابقة باستثمارها للوسائط التكنولوجية الحديثة ومنصات النشر الرقمية وخصوصا يوتيوب، ولذلك يسمى هذا المهاجر الجديد (يوتوبير) Youtubeur وتسمى فيديوهاته المنشورة (فلوغات) Vlogs أو (فلوغات) Flogs حيث يجعل عديد من هؤلاء الشباب هواتفهم النقالة وتطبيقاتها الذكية والفنية دفاتر إلكترونية لتسجيل وبث يوميات رحلاتهم ومغامراتهم على منصة يوتيوب يوما بيوم بل لحظة بلحظة .. مغامرات تقطع الأنفاس أحيانا وهم يعبرون من حدود إلى أخرى مشيا على الأقدام أو ممتطين عربات مكشوفة غير عابئين بما قد يهدد حياتهم من أخطار الطبيعة كتقلبات الطقس المفاجئة ولسعات الحشرات السامة في غابات الأمازون و مافيا المخدرات وقطاع الطرق وصعوبات اجتياز جمارك الحدود.
بعض هؤلاء الشباب استقروا وتزوجوا في هذه البلدان التي تختلف تماما تقاليد وعادات وثقافات مجتمعاتها عن المجتمع المغربي مثل بوليفيا والبيرو والأرجنتين وغواتيمالا ونيكاراغوا بالرغم من أن هذه البلدان قد عرفت هجرات عربية من لبنان وسورية وفلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر، وقد تمكنت هذه الجاليات الشرقية من تشكيل لوبي عربي استطاع أن يضفر بالكراسي الرئاسية والوزارية خصوصا في البرازيل والأرجنتين والبيرو.
إنه لأمر مدهش حقا ومثير للاستغراب والشفقة أيضا وأنت ترى شابا مغربيا يقطع آلاف الكيلومترات في متاهات وقرى غابات الأمازون أعزل ليس له من سلاح غير تشبثه بالأمل وهاتفه النقال وجواز سفر مغربي مغمور وحفنة من النقود يستخلصها أساسا من مساعدات الأصدقاء ومن فلوغاته التي يبثها عبر قناته الخاصة على يوتيوب …
فهذا شاب مغربي يضطر للجوء إلى عائلة من الهنود الحمر في قرية بدائية بالبيرو في استراحة محارب في انتظار استئناف رحلته وشاب آخر في ذروة مجازفته يقف مستكشفا قبر أكبر أباطرة المخدرات في العالم بابلوإسكوبار في مدينة ميدلين بكولومبيا وشاب آخر ينشئ عربة لمطعم متنقل للشوارما في شوارع البيرو وشاب آخر يقيم مع اللاجئين في مخيم بجزيرة باناما متحينا الفرصة للعبور إلى الولايات المتحدة الأمريكية …
أمثلة عديدة لا حصر لها لموجة هجرة جديدة أكثر تراجيدية من ظاهرة الحريك .. ليست غايتها اكتشاف أسرار قارة أمريكا اللاتينية بل دافعها الأساسي تجريب الهروب غربا عبر المحيط الأطلسي بعد أن أغلقت في وجوههم كل الآفاق للعبور شمالا عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا .
ولعل ما يجمع كل هؤلاء الشباب على جناح الاغتراب هو الحصول ما أمكنهم ذلك على جنسية بلد من هذه البلدان الأمريكية الجنوبية إما عن طريق الزواج أو الاستقرار الطويل الأمد الذي يخول الحصول على الجنسية وبالتالي الدخول إلى دول الاتحاد الأوروبي من أبوابها الواسعة بكل سهولة بصفتهم مواطنين من أمريكا اللاتينية وليس بصفتهم مواطنين مغاربة مع كامل الأسف.

الكاتب : عبده حقي - بتاريخ : 03/07/2019