أزمة الأمن القانوني في التصرف العمومي والحلول الكفيلة بمعالجتها

عبد المنعم المحسيني
احتل ولا يزال يحتل الارتفاع المستمر في عدد المنازعات القضائية المرفوعة في مواجهة المرافق العمومية، هاجسا أساسيا لدى السلطات العمومية، واهتماما بالغا لدى المهتمين بتدبير الشأن العام؛ خاصة عندما يترتب عنها صدور أحكام قضائية حائزة لقوة الأمر المقضي به، تعاين انحراف هذه المرافق في استعمال السلطة؛ وتقضي تبعا لذلك بإلغاء قراراتها الإدارية الجائرة، والحكم عليها بأداء تعويضات مالية لفائدة المتضررين من تصرفاتها المخالفة للقانون، تستنزف بصورة باهظة المالية العمومية، وتعرقل تنفيذ البرامج والمشاريع التنموية ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي، والتي كان من المفروض تمويلها من الكلفة المالية التي استهلكتها التصرفات العمومية، التي عاينت محاكم المملكة وهيئات التحكيم الدولي مخالفتها للقانون.
وإذا كانت إشكالية المنازعات القضائية والأحكام القضائية الصادرة بشأنها في مواجهة أشخاص القانون العام، ليست حديثة العهد، بل ظهرت منذ تولي حكومة التناوب التوافقي التي كان يرأسها آنذاك الوزير الأول السي عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله، حيث أصدر عدة دوريات ومناشير هادفة إلى إيجاد الحلول الكفيلة بمعالجة إشكالية تنفيذ الأحكام القضائية، وتقوية القدرات والمؤهلات القانونية للموارد البشرية للمرافق العمومية؛ فإن هذه الإشكالية ازدادت تعمقا وتفشيا، رغم أن دستور المملكة المغربية لسنة 2011 وضع العديد من المبادئ الناظمة للتصرف العمومي؛ كالتكريس الدستوري الصريح لمبدأ امتثال السلطات العمومية لسيادة القانون وسلطانه، شأنها في ذلك شأن أشخاص القانون العام (الفقرة الأولى من الفصل السادس من الدستور)؛ وتقييدها بصورة إلزامية بمبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة ( الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور)، ومبادئ التنافس النزيه والنزاهة والشفافية ( الفصل 36 من الدستور).
وتنزيلا لهذه المبادئ الدستورية الناظمة للتصرف العمومي، تضمنت الترسانة التشريعية المغربية مقتضيات تنص صراحة عليها وعلى القواعد المتفرعة عنها؛ نذكر منها القانون الإطار رقم 03.22 بمثابة ميثاق الاستثمار الصادر بشأن تنفيذه الظهير الشريف رقم 1.22.76 بتاريخ 9 ديسمبر 2022، والذي ينص في المادة الثانية منه على ضرورة قيام سياسة الدولة في مجال الاستثمار وتشجيعه على عدة مبادئ الحكامة الجدية والأمن القانوني؛ وأيضا القانون رقم 54.19 بمثابة ميثاق المرافق العمومية الصادر بشأن تنفيذه الظهير الشريف رقم 1.21.58 المؤرخ في 14 يوليوز 2021، والذي ينص في مادته الخامسة على خضوع المرافق العمومية للعديد من المبادئ الناظمة للتصرف العمومي، أهمها المبادئ التالية:
مبدأ احترام القانون، من خلال تقيد المرافق العمومية في جميع أنشطتها بالنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري العمل بها؛
مبادئ المساواة والشفافية والنزاهة.
وهي نفس المبادئ التي نصت عليها صراحة مقتضيات المادة السادسة من القانون الإطار رقم 50.21 المتعلق بإصلاح المؤسسات والمقاولات العمومية؛حيث اشترطت في هذا الإصلاح ضرورة التقيد بالحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، واحترام الحقوق المكتسبة، والمنافسة الحرة والشفافية.
إلا أنه رغم هذه المبادئ الدستورية والقواعد القانونية المتفرعة عنها والهادفة إلى تحقيق الأمن القانوني في التصرف العمومي، فإن عدد المنازعات القضائية المرفوعة ضد الدولة والأحكام القضائية الصادرة في مواجهتها مازالت في ازدياد مستمر، كما أن كلفتها لا تزال تشكل عائقا بنيويا وصلبا يعرقل السياسة العامة للدولة في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عما يترتب عن ذلك من إضعاف للمجهود العمومي في تكريس مبدأ سيادة القانون، وتثبيت أسس الأمن القانوني على النحو الذي يساهم في تشجيع الاستثمارات الداخلية وجلب الخارجية منها.
وتتضح هذه العوائق البنيوية التي تزعزع الأمن القانوني في التصرفات العمومية، من خلال التقارير السنوية الصادرة عن الوكالة القضائية للمملكة؛ حيث يتضح أن هذه التقارير تؤكد في معطياتها على الازدياد المستمر في عدد المنازعات القضائية المرفوعة ضد مرافق الدولة؛ كما تؤكد على المبالغ المالية المهولة التي تحكم بها محاكم المملكة ضد هذه الأخيرة؛ ففي إطار هذه التقارير السنوية، يتضح من خلال التقرير السنوي لسنة 2011، وهو التقرير الذي تزامن مع دستور المملكة المغربية لسنة 2011، أن عدد المنازعات القضائية المرفوعة لم تتعد 11364 قضية؛ في حين أن عدد هذه القضايا ارتفع في سنة 2022 بنسبة حوالي 100 في المائة، ليصل خلالها إلى 21688 قضية.
ورغم أن عدد القضايا المرفوعة ضد مرافق الدولة خلال سنة 2023 عرف انخفاضا (18395 قضية) بالمقارنة مع عدد القضايا المرفوعة سنة 2022؛ فحسب تقريري الوكالة القضائية للمملكة لسنتي 2022 و2023، فإن المبالغ المالية المحكوم بها ضد الدولة خلال سنة 2023 كانت مرتفعة (5,8 مليار درهم)، بالمقارنة مع تلك المحكوم بها خلال سنة 2022 (3,12 مليار درهم)، دون احتساب الكلفة المالية المترتبة عن أتعاب المحامين والرسوم القضائية والمصاريف القضائية المؤداة في إطار الخبرات القضائية.
وتجدر الإشارة أن هذه المعطيات المرقمة، سواء على مستوى عدد المنازعات القضائية المرفوعة ضد الدولة أو الأحكام القضائية التي تصدر في مواجهة إداراتها العمومية، فإنها لا تعبر عن الحجم الحقيقي للكلفة الإجمالية الناجمة عن المنازعات العمومية، اعتبارا لكون التقارير السنوية الصادرة عن الوكالة القضائية للمملكة لا تتضمن كافة المعطيات المتعلقة بالمنازعات العمومية، حيث تغيب فيها تلك المعطيات المرتبطة بالمنازعات العمومية والأحكام القضائية الصادرة في مواجهة المديرية العامة للضرائب والإدارة العامة للجمارك والضرائب غير المباشرة ومديرية أملاك الدولة، والوزارة المكلفة بالأوقاف والشؤون الإسلامية، وقطاع المياه والغابات، والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية؛ إذ من أجل معرفة الكلفة الحقيقية للكلفة الإجمالية للمنازعات العمومية، يتعين كشف الغطاء عن المعطيات المرتبطة بكافة هذه القطاعات؛ وهو الأمر الذي سيبين بوضوح أن الكلفة الإجمالية ستكون مهولة جدا.
وأمام هذه الوضعية المقلقة للمنازعات العمومية والكلفة المالية المترتبة عنها، خاصة بعد دستور 2011 الذي جاء بمبادئ دستورية هادفة إلى تكريس الأمن القانوني في التصرف العمومي، يطرح التساؤل حول التدابير الحكومية المتخذة لتحصين التصرف القانوني من المخاطر القانونية التي تقوض مرتكزات مبدأ سيادة القانون؟ فهل اتخذت الحكومة تدابير هادفة إلى حماية الأمن القانوني؟
يتضح من خلال التدابير المتخذة من طرف السلطة الحكومية بعد صدور دستور 2011، أن هذه الأخيرة لجأت إلى حلول ضعيفة غير كفيلة بحماية الأمن القانوني في التصرفات العمومية؛ بل وأكثر من ذلك، فإن أغلب هذه الحلول جاءت مناقضة ومنتهكة لمبادئ سيادة القانون والحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، حيث كان تبنيها يغلب عليه الهاجس المالي ويغيب فيه الأمن القانوني وما يقتضيه مفهوم دولة القانون من مستلزمات المساواة أمامه في النطق التشريعي.
وتتضح هشاشة هذه الحلول المتخذة لمواجهة أزمة الأحكام القضائية في مواجهة إدارات الدولة وجماعاتها الترابية، وضعفها في حماية الأمن القانوني في المقتضيات التي تم تضمينها في قوانين المالية خاصة تلك المتعلقة بتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها، حيث عوض أن يتم سن منظومة قانونية تهدف إلى وقاية التصرف العمومي من المخاطر القانونية وصدور أحكام قضائية تستنزف المالية العمومية، فإنه تم تبني مقتضيات واردة في قانون المالية لسنة 2020 تضع قيودا على تنفيذ هذا النوع من الأحكام القضائية؛ مما يشكل انتهاكا لمبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه في الفصل السادس من الدستور، اعتبارا لكون مقتضيات المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020 أعطت أجلا قد يصل إلى أربع سنوات، وهو الأجل الذي لا يتمتع به أشخاص القانون الخاص في الحالة التي تكون فيها الأحكام صادرة في مواجهتهم لفائدة الدولة، حيث تطبق بشأن هذه الأحكام أجل 10 أيام المنصوص عليها في الفصل 440 من قانون المسطرة المدنية.
ومن قبيل الحلول أيضا المخالفة لمبدأ سيادة القانون المتخذة لمواجهة أزمة المنازعات القضائية العمومية والأحكام القضائية الصادرة في مواجهتها، تلك الواردة في قانون المالية لسنة 2025 والتي تهدف بصورة غير مباشرة إضفاء طابع المشروعية على الاعتداء المادي الذي تقوم به مرافق الدولة في مخالفة صريحة لمبدأ حماية الملكية الخاصة من كل انتزاع مخالف للقانون، والمنصوص عليه في الفصل 35 من دستور المملكة المغربية لسنة 2011.
هذا الأمر يؤكد بشكل قاطع أن مختلف الحلول الترقيعية المتخذة لن تهدف سوى إلى إضفاء الصورية على الأمن القانوني للتصرف العمومي، وأن هذا الأمن القانوني لن يتم حمايته وتقويته إلا بإرادة تدبيرية وسياسية بنيوية قادة على اجتثاث جميع الأسباب التي تقوض مبدأ سيادة القانون وتهدد الأمن القانوني في التصرف العمومي؛ وهي التهديدات التي انتبه إليها الفريق الاشتراكي بمجلس النواب منذ سنة 2012 وخلال الولايات التشريعية اللاحقة، حيث قدم مقترح قانون يقضي إلى إحداث هيئة قضايا الدولة يهدف إلى تكريس الحكامة القانونية في التصرف العمومي، ووقايته من المخاطر القانونية وتحقيق الأمن القانوني في التصرف العمومي، من خلال إحداث التأشيرة القانونية، إلى جانب التأشيرة المالية، تشمل بعض القرارات والعقود الإدارية والأعمال الإدارية التي تكون لها انعكاسات مالية وقانونية مؤثرة.
هذا المقترح قانون المقدم من طرف الفريق الاشتراكي بمجلس النواب والمتعلق بإحداث هيئة قضايا الدولة، جاء متضمنا لكافة الحلول البنيوية التي من شأنها إيجاد الحلول الكفيلة للأزمة التي يعيشها الأمن القانون في التصرف العمومي، عبر إجراء إصلاح شامل للإطار القانوني المنظم للوكالة القضائية المتمثل في الظهير الشريف المؤرخ في 2 مارس 1953؛ حيث استند في بلورة مقترحه على العديد من التجارب المقارنة، من قبل التجربة الأمريكية التي تعتمد على مؤسسة المحامي العام « THE GENERAL ATHORNY »، التي يمثل في الدولة الأمريكية أمام القضاء، والتجربة الإيطالية التي تعتمد مؤسسة « AVVOCATURA DELLO STATO » التي تتولى الدفاع عن مصالح الدولة أمام المحاكم الوطنية، والتجربة المصرية التي تعتمد على مؤسسة هيئة قضايا الدولة التي تعتبر هيئة قضائية تتولى النيابة العامة المدنية مهمتها الدفاع عن المصالح المدنية والمالية للدولة، وغيرها من التجارب المقارنة الرائدة في هذا المجال، التجربة القبرصية والتجربة الأردنية.
كما أسس الفريق الاشتراكي مقترح القانون الذي تقدم به بشأن إحداث هيئة قضايا الدولة، على مجموعة من الالتزامات التي التزم بها المغرب في إطار مؤتمرات إدارات وهيئات قضايا الدولة التابعة لمجلس وزراء العدل العرب، وخاصة المؤتمر المنعقد بالمملكة المغربية خلال سنة 2007، والذي كان من بين توصياته إحداث هيئة قضايا الدولة تحل محل الوكالة القضائية والإدارات المشابهة لهذه الأخيرة في الدول الأعضاء التي لا توجد بها هيئة قضايا الدولة.
وفي إطار هذا المقترح الهادف إلى إصلاح الوكالة القضائية للمملكة وإصلاح منظومة المنازعات القضائية العمومية بالمغرب، اقترح الفريق الاشتراكي بمجلس النواب، تجميع المنازعات القضائية للدولة وإسنادها لهيئة مستقلة يناط بها، إلى جانب مهام الوقاية من المخاطر القانونية، مهمة النيابة عن الدولة في مجال المنازعات القضائية، والسلطة التقريرية في مجال الطعون المتربة عنها وإبرام الصلح مع المتقاضين مع الدولة؛ كما اقترح تأهيل الموارد البشرية وإحداث هيئة المستشارين المقررين يتم تكوينهم تكوينا خاصا يماثل تكوين القضاة، على غرار ما هو معمول به في التجارب المقارنة.
مضامين هذا المقترح ومرتكزاته هي نفسها التي خلصت إليها نتائج التقرير الموضوعاتي حول المنازعات العمومية المنجز سنة 2015 من طرف المجلس الأعلى للحسابات، والذي أوصى بضرورة إصلاح الإطار القانوني للوكالة القضائية من خلال منحها الاستقلالية الكافية للقيام بمهامها في مجال الوقاية من المخاطر القانونية وتدبير المنازعات القضائية وإبرام الصلح بشأنها مع أطراف الخصومة القضائية، وإحداث هيئة خاصة بأطر الوكالة القضائية للمملكة يسري عليها نظام خاص يأخذ بعين الاعتبار لما تقتضيه طبيعة المهام الوظيفية المنوطة بهم في مجال إبداء الرأي وتقديم الاستشارة والوقاية من المخاطر القانونية وتدبير المنازعات القضائية.
وتأسيسا على ما سبق، يقتضي الإصلاح الحقيقي والناجع الكفيل بكسب التحديات التي تعترض الأمن القانوني في التصرف العمومي، ضرورة إصلاح الإطار المؤسساتي للوكالة القضائية للمملكة بما يؤهلها لكسب رهان المتغيرات السياسية والقانونية والاقتصادية، والأخذ بعين الاعتبار المقترحات البناءة المقدمة في هذا المجال، وتنفيذ التوصيات الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات في تقريره الموضوعاتي المتعلق بالمنازعات العمومية، وذلك وفق ما تقتضيه مقتضيات المادة 15 من القانون رقم 54.19 المتعلق بميثاق المرافق العمومية، والتي تلزم المرافق العمومية بتنفيذ التوصيات الصادرة عن مؤسسات الحكامة.
الكاتب : عبد المنعم المحسيني - بتاريخ : 11/04/2025