أزمة «بلوكاج» المحاكم … حتى لا تصاب العدالة في مقتل

n الدكتور أحمد حموش (*)

لا غرو أن يتكرس واقع أزمة “بلوكاج” المحاكم، من خلال ما عبر عنه جموع المحاميات والمحامين في الوقفات والبيانات الصادرة عن مختلف هيئات المحامين بالمغرب، وكذا الإطارات الوطنية الشبابية وعلى رأسها فيدرالية جمعيات المحامين الشباب بالمغرب كانت آخرها عزمهم على تنظيم وقفة. احتجاجية أمام مقر محكمة النقض يوم الجمعة 2021/12/24 والذي يمثل مقرا للرئاسة المنتدبة للمجلس الاعلى للسلطة القضائية في استجابة للاجماع الحاصل اليوم بالأوساط المهنية على رفض جواز التلقيح الذي دعت الدورية الثلاثية الصادرة عن كل من الرئاسة المنتدبة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ووزير العدل ورئاسة النيابة العامة على ضرورة الادلاء به عند الولوج الى المحاكم، وهو ما اعتبرناه كمحامين خرقا سافرا للدستور المغربي الذي نص على ضمان الحق في المحاكمة العادلة (الفصل 23 و 120 ) والحق في الدفاع (الفصل 118 و 120)، وعلنية الجلسات (الفصل 123) وأقرها في المواد 300 و 311 و 312 من قانون المسطرة الجنائية فضلا عن أنه لا يجوز تعليقها أو إعمال مبدأ الضرورة والتناسب، لما في ذلك من مس بمبادئ الدستور والقوانين في الشق المتعلق بالحقوق والحريات.
وحيث إن منع المحامين من ولوج المحاكم تحت ذريعة عدم التوفر على جواز التلقيح يشكل انتهاكا صارخا للمواثيق الدولية خاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته 8 وكذا العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في مادته 14، وكذا المبادئ الأساسية بشأن دور المحامين التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد بهافانا من 27 غشت إلى 27 غشت إلى 7 شتنبر 1990 والذي جاء في البند 16 منه.
تكفل الحكومات ما يلي للمحامين: القدرة على أداء جميع وظائفهم المهنية بدون تخويف أو إعاقة أو مضايقة أو تدخل غير لائق.
فهذه المواثيق والقوانين سواء منها الوطنية والدولية تجمع على أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تعطيل مرفق العدالة ومنع المحامي من أداء مهامه تحت أي سبب من الأسباب.
فحتى فترة الحجر الصحي التي عرفتها بلادنا إبان تفشي وباء كورونا بطريقة سريعة كانت المحاكم مفتوحة، وكان المحامي يؤدي مهامه وفي احترام تام للتدابير التي اتخذتها الدولة انذاك للحد من انتشار الفيروس من تباعد، وارتداء الكمامات، وتعقيم قاعات الجلسات وأماكن الإجراءات، بل إن هيئات المحامين بمختلف ربوع المغرب كانت السباقة إلى التبرع لفائدة الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا كوفيد 19، ومن غير المستساغ قانونا وواقعا اليوم أن يتم إصدار دورية من هذا القبيل على فرض توفرها على الشروط الشكلية والموجب القانوني من حيث الاختصاص أولا ومن حيث التعليل ثانيا، بعد الانفراج الوبائي الذي حصل والشاهد عندنا ما نشاهده اليوم من اكتظاظ على مستوى المتاجر والأسواق والملاعب والفضاءات العمومية وأحيانا بدون احترام للتدابير الموصى بها.
فضلا على أنه بالرجوع إلى مرسوم بقانون رقم 2.20.292 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها فإنه لا يوجد به أي نص يلزم المواطن بشكل عام بالإدلاء بجواز التلقيح مادام التلقيح في حد ذاته اختيارا، ويبقى المنشور المحتج به غير دستوري طالما أنه لم يتم نشر قانون خاص باجبارية التلقيح، ومن ثم اعتبار الإدلاء بما يفيد ذلك غير إجباري كذلك، مما يدل على أن الدولة لا تريد أن تتحمل مسؤوليتها الإدارية لجبر الأضرار التي قد تنجم عن التلقيح الإجباري.
وبالرجوع للقوانين المؤطرة لاختصاصات هذه المؤسسات الدستورية التي أصدرت الدورية فإنه لا وجود لأي نص يمنحها الاختصاص في إصدار دورية تؤدي إلى تعطيل العمل بالمحاكم تحت ذريعة الادلاء بجواز التلقيح أو بالأحرى إصدار دورية تمنع المحامي من ولوج المحكمة، وفي هذا مساس خطير باستقلالية مهنة المحاماة مما يجعل الدورية تقع تحت طائلة عيب عدم اختصاص من صدرت عنه.
فالمحامي ينبغي أن يلج المحكمة بدون الإدلاء بما يتنافى مع بذلته السوداء احتراما للأعراف والتقاليد العريقة لمهنة المحاماة والتي لا تقبل المساومة.
ثم بقراءة سريعة لهذه الدورية فقد تمت معاينة أنها تتنافى مع المرسوم الذي استندت عليه إذ أنه جاء في الفقرة الاخيرة من هذا المرسوم أنه لا تحول التدابير المتخذة المذكورة دون استمرارية المرافق العمومية الحيوية وتأمين الخدمات التي تقدمها للمرتفقين. مما يجعل أجزاء الدورية تتناقض مع بعضها البعض وما بالسند المستمد من المرسوم نفسه غير ذي أساس قانوني سليم، وهو ما يجعلها تتناثر قانونا من تلقاء نفسها.
فضلا عن أن هذه الدورية وبالشكل الذي صيغت به تطرح إشكالية استقلالية السلطة القضائية في علاقتها بالسلطة التنفيذية، واستقلالية النيابة العامة كذلك، إذ أنه قد يفهم من توقيع المجلس الأعلى للسلطة القضائية على هذه الدورية بأن السلطة القضائية قد تنازلت عن صلاحياتها الدستورية المتمثلة في حماية الحقوق والحريات وتطبيق القانون والتي تجبرها هذه المبادئ والصلاحيات التي تكون جهة محايدة بعيدة. على البحث عن التجاذبات والاستقطابات السياسية التي قد تفرزها النقاشات المجتمعية غير المحسوسة، وأنه عوض أن يحسمها القضاء نفسه بالطرق المتعارف عليها قانونا فإنه يكون طرفا فيها بانحيازه للسلطة التنفيذية، وهو ما يؤدي إلى هدم الأركان الدستورية القائمة على فصل السلط وتوازنها.
إن مكان المحامي الطبيعي هو المحكمة، وجوهر ممارسة السلطة القضائية تتمثل في المحاكم، ووجود المحامي بالمحكمة بالدفاع عن المواطن كمدعي أو كمدعى عليه في الخصومة المدنية أو كمتهم أو مطالب بالحق المدني في الخصومة الجنائية، ووجود المواطن بالمحكمة كشاهد مصرح وغيرها من المراكز القانونية التي قد يتخذها باختلاف دوره في الخصومة ليس امتيازا للمحامي بل هو من صميم مقومات تحقيق العدالة.
وبأن أي مساس بوجوده الطبيعي بالمحكمة هو تعطيل للحقوق والحريات وتهديد مباشر للسلم والأمن القانوني والقضائي وبالتالي انهيار لدولة الحق والقنون، فالعدالة بطبيعها لا يتصور، واقعا، أن تشهد حالة البلوكاج الذي أريد لها أن تسقط في مستنقعه قسرا وباتفاق ثلاثي الأبعاد، والولوج المستنير للعدالة وللمحاكم حق للجميع بدون تمييز، وبالتالي ومن منطلق السعي إلى رفع حرج ومسؤولية الجميع حتى لا تصاب العدالة في مقتل فلا مناص من التراجع والعدول عن هذه الدورية لفائدة سمو العدالة واحترام الدستور والقانون.

(*) محام بهيئة الدار البيضاء
عضو المكتب الفيدرالي لفيدرالية جمعيات المحامين الشباب بالمغرب

الكاتب : n الدكتور أحمد حموش (*) - بتاريخ : 24/12/2021

التعليقات مغلقة.