أقدم سجين في العالم كريم يونس.. مانديلا فلسطين

حسن العاصي*

والدة فلسطينية ثمانينية ما زالت تنتظر بقلب انفطر من الحزن، منذ ما يزيد عن 38 عاماً عند مدخل منزلها في بلدة «عارة» بفلسطين المحتلة عام 1948، أن يطل عليها فلذة كبدها، ويعود لأحضانها صغيراً يافعاً كما غادره أول مرة. إنها السيدة “صبحية يونس” والدة أقدم اسير في العالم، وعميد الأسرى “كريم يونس”.
لم تترك سجنا إلا وقامت بزيارته، تعد الأيام وتنتظر بلهفة الأم يوم الزيارة. منذ 38 عاماً وهي تنتقل من سجن لآخر. لم تغب عن أي زيارة رغم عذاب ومشقة السفر والتنقل، والساعات الطويلة التي تنتظرها قبل أن يسمح لها الجنود الصهاينة برؤية كريم لوقت قصير.
تنتظر زيارته بشوق الأم، وفي كل مرة كأنها تراه أول مرة. يسألها عن صحتها وعن أحوال أشقائه وشقيقاته، وهي تحدثه عن كل شيء. وحين يعلن الجندي البغيض انتهاء موعد الزيارة تفيض دموعها، لكن كريم يؤكد لها في كل مرة أنه سوف يعود لها، وأنه سوف يغادر جدران زنزانته ويخرج حراً، ولن يطول غيابه، ثم يطلب منها عدم البكاء.
منذ 38 عاماً وهي تتجرع مرارة الانتظار على أبواب السجون والمعتقلات الصهيونية التي ينقلون إليها كريم. أصبحت تحفظ أسماء السجون والطرق إليها. منذ 38 عاماً وهي تسافر وتجوب مدن وقرى فلسطين للتواصل مع الأسرى المحررين وذويهم، وتهنئتهم بالإفراج عنهم، فهذه كانت وصية كريم لعائلته.
توفى والد كريم حزناً وكمداً على ابنه بعد مضي 30 عاماً على اعتقاله دون أن يراه. ووالدته الثمانينية أعياها المرض، والحزن حفر عميقاً في ملامح وجهها. ومازالت تتمسك بالأمل أن ترى ابنها كريم بدون حواجز زجاجية، وأن تتمكن من لمسه قبل أن تفارق الحياة.

الأحكام القاسية

في الرابع من يناير/كانون الثاني عام 1983 اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي الفلسطيني كريم يونس من داخل حرم جامعة «بن غوريون» في بئر السبع حيث كان يكمل تعليمه طالباً في السنة الثالثة بكلية الهندسة الميكانيكية.
وبعد 27 جلسة محكمة هزلية على مدار سنة كاملة، أصدرت المحكمة الإسرائيلية قراراً بإعدام كريم شنقًا بالحبل بتهمة قتل جندي إسرائيلي. بعد استئنافات عديدة قررت المحكمة إصدار حكماً بالسجن المؤبد المفتوح.
وما زال كريم في خلف قضبان المعتقلات مجسداً أبهى صور التحدي والصمود والصبر والتضحية. منتصراً بشموخه على السجان في كل يوم. ويعطي مثالاً حياً عن الإرادة الفلسطينية التي لن تطوعها كافة أساليب وفنون التعذيب الوحشي للجلادين الصهاينة.
وأنا أخط هذه الكلمات عن كريم يونس، يكون قد أمضى أكثر 38 عاماً داخل سجون أعداء البشرية. أي 14.020 يوماً. إنه عميد السجناء والمعتقلين الفلسطينيين والعرب، وأقدم سجين في العالم. أسطورة بصموده في وجه السجان وأدواته الوحشية. قائد ميداني أجمع عليه آلاف الأسرى داخل معتقلات النازيين الجدد، والتفوا حوله لقيادة معاركهم داخل السجون والمعتقلات لانتزاع حقوقهم الإنسانية. كريم يونس أكثر قائد وطني فلسطيني ممثل للأسرى تعرض للعزل الانفرادي عبر تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية.
كان على الدوام مدافعاً عن حقوق الأسرى، وخير من يمثلهم، وسوف يظل المثل الأهم في الصبر والصمود والتحدي لهم ولأي أسير في العالم. رفض الخضوع لابتزاز ومساومات إدارة السجون والمخابرات لعزله عن الحركة الوطنية الأسيرة في السجون، وناضل بقوة ضد محاولات الإدارة بث الفتنة والفرقة والتجزئة بين أبناء الحركة الأسيرة، وفصل العلاقة بين أسرى الداخل عن باقي الحركة الفلسطينية الأسيرة.
خلال وجوده في السجن درس كريم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة الدولية المفتوحة. كتب ونشر العديد من المقالات السياسية والثقافية. وأصدر كتابان الأول بعنوان )الواقع الآخر للأحزاب الاسرائيلية)، تحدث من خلاله عن جميع الأحزاب السياسية الاسرائيلية وفضح سياسية تلك الأحزاب. والكتاب الثاني فكان بعنوان (الصراع الايديولوجي والتسوية(
كان يفترض أن يتم الإفراج عن كريم خلال الدفعة الرابعة وفق التفاهمات التي أبرمها الرئيس الفلسطيني مع الحكومة الإسرائيلية والتي تقضي بالإفراج عن كافة الأسرى القدامى المعتقلين قبل اتفاقيات أوسلو، ولكن حكومة الاحتلال تنصلت من الإفراج عن الدفعة الرابعة والتي كانت تتضمن 30 أسيرا منهم 14 أسيرا من الداخل الفلسطيني وهم الأقدم في السجون. لكن إسرائيل وفي كافة المراحل السابقة وخلال المفاوضات أو صفقات التبادل كانت ترفض الإفراج عنهم.

مثل شجرة راسخة

بعذاب وحزن تجلس الحاجة «صبحية يونس» فوق كرسي متحرك في مدخل منزلها، بقربها صورة كبيرة لكريم أكبر الأبناء الذي تنتظر عودته منذ 38 عاماً. ولم تنجح التجاعيد التي حفرها الزمن على تقاسيم وجهها ـالذي فارقته الابتسامةـ في إخفاء القوة التي تنبعث من عينيها.
ورغم الأيام العصيبة التي أمضتها في انتظار اللحظة الأجمل في حياتها، إلا أن والدة كريم تأمل في كل لحظة أن يتحقق حلمها. فهو أخبرها أنه سوف يعود. وطالما طلب منها ألا تحزن. قال لها ذات زيارة وقد رآها تبكي حزناً « لماذا أنت حزينة يا أمي؟ فهناك 11 ألف سجين وأنا واحد منهم.. أليس هؤلاء السجناء شبابا ولهم أهل ولهم زوجات؟ وأنا واحد من هؤلاء الشباب.. فلا تبكي يا أمي”
مازال كريم الذي يبلغ من العمر الآن 62 عاماً، يقبع خلف قضبان سجن «هداريم» بعد عزله من سجن النقب يتطلع إلى السماء وإلى فجر الحرية مشحونا بالأمل والإرادة التي لم تكسرها السنوات القاسية ولا ممارسات القمع الوحشية.
الحاجة “صبحية يونس” تعتبر كريم بانتصاره على سجانه حراً حتى لو كان في زنزانته، وكل ما تخشاه ألا تلاقيه في اللحظات الأولى لحريته خارج اسوار السجن.

العالم غير المتحضر

بجانب كريم يقبع آلاف الأسرى الفلسطينيين في معتقلات وزنازين النازية الصهيونية منذ سنين عديدة. وحال الحاجة أم كريم حال الآلاف من أمهات أسرانا اللواتي عانين وما زلن الكثير في الزيارات بسبب سياسات وإجراءات الاحتلال في التفتيش والانتظار والقمع والاستفزاز.
فالاحتلال لا يتعمد فقط قمع الأسير وإذلاله ومحاولة تفريغه من محتواه الوطني والنضالي، بل يسعى للانتقام من الأهالي والتأثير على معنوياتهم.
في نضاله ورفاقه لتغيير النظام العنصري في جنوب أفريقيا، بنظام آخر متعدد الأعراق، سجن الزعيم الراحل الجنوب أفريقي “نيلسون مانديلا” 27 عاماً في سجون نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، قبل أن يخرج في العام 1990. بفعل حركة مقاطعة وعقوبات دولية لنظام الفصل العنصري، انخرطت فيها دول وأحزاب وقوى سياسية ومجتمعية، أجبرت النظام العنصري للاستجابة لهذه الضغوط وإطلاق سراح “مانديلا”، والاعتراف بحقوق الأغلبية من السكان، وإعادة الأراضي التي استولوا عليها لأصحابها الأصليين.
فيما يتواصل اعتقال كريم والآلاف من الاسرى الفلسطينيين في معتقلات وزنازين الفاشية الجديدة، التي لا تقيم للقيم الإنسانية وزناً، وتضرب بعرض الحائط كافة القرارات والمواثيق الدولية التي تضمن حق المتهم في محاكمة عادلة، وحقوقاً في السجن أبسطها العلاج وتوفير الأدوية.
لقد تم تبييض السجون السياسية الاستعمارية الجمعية في كافة أرجاء المعمورة، إلا لدى الشعب الفلسطيني الذي يعاني من آخر وأبشع احتلال في العالم من قبل المستعمرة الإسرائيلية.
وماذا سيقول هذا العالم الحر بأنظمته وشعوبه ومنظماته الدولية وجمعياته الحقوقية لكريم يونس الذي خطفته قوات الاحتلال الإسرائيلي من مقاعد الدراسة الجامعية قبل 38 عاماً، ولا يزال خلف القضبان، وما هو موقف الدول المتحضرة من اعتقال إسرائيل للآلاف من الاسرى الفلسطينيين، الذين أمضوا أجمل سنين حياتهم في معتقلات وزنازين فاشية.
إسرائيل سرقت من الشعب الفلسطيني الأرض والوطن، سرقت الحياة، وسرقت أعمار عشرات الآلاف من الأسرى الفلسطينيين. لكنها فشلت في سرقة حريتهم، وعجزت عن مصادرة حلمهم في فلسطين حرة مستقلة ذات سيادة وبدولة ديمقراطية تتمتع بحقوق كاملة للشعب الفلسطيني.

*كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك

الكاتب : حسن العاصي* - بتاريخ : 22/06/2020