إنقاذ الوكالة القضائية للمملكة من إنهاك المجهود العمومي في متاهات التوصيات

n عبد المنعم محسيني (*)

اختتمت المناظرة الوطنية الأولى لتدبير المنازعات القضائية للمملكة، المنعقدة بالرباط يومي 15 و16 أبريل 2025، أشغالها بإصدار لما يفوق أربعين توصية تتوخى تنزيل العديد من المبادئ الهادفة إلى إصلاح النظام المؤسساتي والقانوني لتدبير المنازعات القضائية للدولة.
وقد كان تنظيم هذه المناظرة الوطنية ناتجا عن الرغبة الأكيدة في إيجاد الحلول للأزمة العميقة الناتجة عن الارتفاع المهول في عدد المنازعات القضائية التي تكون الدولة طرفا فيها، وما يترتب عن هذه المنازعات من صدور أحكام قضائية تلزم الدولة بأداء مبالغ مالية كبيرة تستنزف المالية العامة، وتعرقل تنفيذ البرامج الاقتصادية والاجتماعية المسطرة في السياسات العمومية.
وإذا كانت هذه الرغبة الأكيدة في مواجهة تحديات ورهانات أزمة المنازعات القضائية، ليست محط تشكيك من أي نوع كان، فإن التساؤل المطروح والهاجس المخيف يدور حول مصير التوصيات المعلن عنها خلال الجلسة الختامية للمناظرة الوطنية حول تدبير المنازعات القضائية للدولة.
إن الخوف على مصير توصيات المناظرة الوطنية الهادفة في شموليتها إلى إصلاح المنظومة القانونية والمؤسساتية المرتبطة بتدبير المنازعات القضائية للدولة، يظل خوفًا مشروعًا يحق لكل مواطن مغربي مهتم بالشأن العام، وكذا لكل متخصص وباحث في الموضوع، خاصة عند استحضار أن هذه التوصيات ليست الأولى من نوعها التي همت إصلاح هذه المنظومة ذات المكانة المتميزة في إرساء دعائم دولة القانون.
إن المناظرة الوطنية الأولى لتدبير المنازعات القضائية للدولة، رغم أهميتها، لم تكن هي الحدث الوطني الأول الذي تناول بالدراسة والمناقشة المستفيضة أزمة منازعات الدولة، ولم تكن التوصيات الصادرة هذه عن المناظرة الوطنية هي التوصيات الأولى الهادفة إلى إصلاح منظومة المنازعات العمومية.
فمن خلال البحث البسيط في ذاكرة عقل المدبر العمومي، ومن خلال إزالة الغبار عن الأرشيف الوثائقي الورقي والسمعي البصري سيتأكد أن موضوع إصلاح نظام منازعات الدولة كان محل أشغال العديد من المؤتمرات والندوات والأبحاث والتحقيقات والرقابات التي أنجزتها الدولة المغربية، عبر إداراتها وأجهزتها وهيئاتها العمومية.
ويؤكد الأرشيف المذكور أن أول حدث مرتبط بالموضوع كان هو مؤتمر رؤساء إدارات وهيئات قضايا الدولة الذي نظمته الوكالة القضائية للمملكة خلال شهر يوليوز من سنة 2007، والذي نتج عنه إصدار العديد من التوصيات التي تهدف إلى إصلاح الوكالة القضائية للمملكة وعبرها إصلاح منظومة المنازعات القضائية للدولة.
وكان الحدث الثاني المرتبط بالموضوع هو مهمة التدقيق في المنازعات العمومية، والذي أنجزه المجلس الأعلى للحسابات، وترتب عنه صدور التقرير الموضوعاتي حول تدبير المنازعات العمومية سنة 2015، والذي أصدر العديد من التوصيات الهادفة إلى إصلاح نفس المنظومة، والتي تتطابق في شموليتها مع التوصيات السابقة، وكذا توصيات المناظرة الوطنية الأولى لتدبير المنازعات القضائية للدولة الحديثة العهد،
هذا التطابق المبدئي في التوصيات الصادرة خلال ثلاث مناسبات وطنية، كانت الأولى خلال العشرية الأولى من الألفية الثالثة (مؤتمر رؤساء إدارات وهيئات قضايا الدولة بالرباط سنة 2007)، والمناسبة الثانية في العشرية الثانية (تقرير المجلس الأعلى للحسابات سنة 2015)، والمناسبة الثالثة في العشرية الثالثة (المناظرة الوطنية الأولى لتدبير المنازعات القضائية للدولة أبريل 2025)؛ هذا التطابق في التوصيات لثلاثة أعمال صادرة عن مؤسسات الدولة أنجزت على امتداد حوالي عشرين سنة، يثير التساؤل حول مصير التوصيات السابقة؛ فهل تم تفعيلها وتنزيلها؟ ولماذا تم تكرار جلها في المناظرة الوطنية الراهنة؛ هل قدر هذا الموضوع يقف عند حدود إصدار توصيات دون أن تعرف صدى التنزيل والتفعيل؟
ألم يكن حريا تنظيم المناظرة الوطنية التي أنجزت خلال هذا الشهر، حول موضوع تقييم تنزيل التوصيات الصادرة عن مؤتمر رؤساء إدارات وهيئات قضايا الدولة المنظم في المغرب سنة 2007، وكذا تقييم تنزيل توصيات التقرير الموضوعاتي الصادر عن المجلس الأعلى للحسابات؟
وهل كان من الضروري تنظيم مناظرة وطنية لتتمخض عنها توصيات أغلبها يماثل مبدئيات توصيات التقرير الموضوعاتي والمؤتمر السالف الذكر؟
بل وأكثر من ذلك، فإن بعض التوصيات الصادرة عن المناظرة الوطنية جاءت معاكسة ومخالفة لتوجه توصيات بعض المؤسسات الدستورية للمملكة، ومن قبيل ذلك التوصيات المتعلقة بموضوع الاعتداء المادي، وإشكالية تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد الدولة، حيث أوصت المناظرة بالتدبير الجيد لمنازعات الاعتداء المادي، مما يحمل في عمقه القبول بظاهرة الاعتداء المادي الذي بواسطته استيلاء الإدارة على الممتلكات العقارية للخواص دون سلوك مسطرة نزع الملكية لأجل المنفعة العامة؛ والحال أن تقارير مؤسسة وسيط المملكة نبهت ودقت ناقوس خطر الاعتداء المادي، بل وفي التقرير السنوي لسنة 2013، أكد وسيط المملكة أن المواطن المغربي لن يرضى أن تكون الإدارة تتصف بصفة الغاصب والمعتدي على ممتلكات الخواص، وأعتبر أن الإدارة يجب أن تكون هي نموذج احترام القانون وليس هي التي تتصف بخرقه.
إن الخلاصة التي يمكن استنتاجها من خلال هذه المناسبات الوطنية حول تدبير المنازعات القضائية للدولة، هو أن هذه الأخيرة في حاجة ماسة أولا لإنقاذها من متاهات التوصيات غير المفعلة، وأن ما يجب تنظيمه في المناسبات المقبلة، والتي نأمل أن تكون فريبة، هو تنظيم مناظرة أو مؤتمر أو ندوة حول السبل الكفيلة بتنزيل التوصيات السابقة، وليس حول إعادة إنتاج نفس التوصيات وإصدارها وكأنها توصيات جديدة.
مثل ذلك، توصية مركزية المنازعات القضائية للدولة في اختصاص حصري للوكالة القضائية للمملكة، كانت توصية صادرة عن مؤتمر رؤساء إدارات وهيئات قضايا الدولة المنظم بالمغرب سنة 2007، وكانت أيضا جوهر مقترح الفريق الاشتراكي بمجلس النواب منذ سنة 2012، وأعيد تسجيله سنتي 2017 و2024، وتبعا لذلك، لم تكن هذه التوصية وليدة المناظرة الوطنية لسنة 2025؛ وبالتالي، كان حريّا مناقشة آليات تنزيلها وليس إعادة النقاش من أجل إعادة إصدارها.
إن هدر زمن الإصلاح له كلفة كبيرة، تكون الدولة في غنى عنها، ولن يتطلب الأمر سوى أجرأة الإصلاح بدل تمطيطه، حتى لا يتجاوزه الزمن بفعل المتغيرات العالمية التي أضحت رهانا للذكاء الاصطناعي، وتجاوزت رهانات الذكاء الترددي.

(*) عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية

الكاتب : n عبد المنعم محسيني (*) - بتاريخ : 28/04/2025