احتقار العربية في عُقر دارها
عبد الله النملي
في الوقت الذي يزداد فيه الإقبال على تعلم اللغة العربية من قبل غير الناطقين بها في العالم، تتعرض في عقر دارها للإهمال والاحتقار. والقول العربي « لا كرامة لنبي في وطنه « ينطبق على حال اللغة العربية في المغرب، لدرجة وصل معها الأمر إلى أن سفير روسيا بالمغرب فاليري فوروبييف، تحدث باللغة العربية بحضور وزير الفلاحة المغربي ووزير الزراعة الروسي، خلال المنتدى المغربي الروسي الذي احتضنته الرباط يومه الثلاثاء 10 أكتوبر 2017، فيما اختار كل من وزير الفلاحة المغربي عزيز اخنوش، ورئيسة الاتحاد العام لمقاولات المغرب، مريم بنصالح، اللغة الفرنسية. وأشار السفير فوروبييف، أنه اختار الحديث باللغة العربية لأنها هي اللغة الرسمية إلى جانب الأمازيغية. وقد سبق للمسؤول الروسي أن استغرب، قبل ثلاث سنوات، محاولة فرض اللغة الفرنسية عليه خلال لقاء نظمته الإيسيسكو بالرباط. وقال « كيف يطلب مني أن أتحدث بالفرنسية في بلد لغته الدستورية هي العربية والأمازيغية «، وهو الموقف الذي تشبث به في عدة لقاءات وأنشطة رسمية في ظل هوس مرضي لدى بعض المسؤولين المغاربة باللغة الفرنسية.
ورغم كل مميزات اللغة العربية الفصحى وأهميتها كلغة رسمية إلى جانب الأمازيغية، فإن بعض المسؤولين بالمغرب، لا يزالون يصرون على إلغاء التكلم باللغة العربية الفصحى أو الكتابة بها. وكم من مسؤول حكومي يُحَدث المواطنين في شأن عام يهمهم، وبدل الاستماع إليه مباشرة يتم اللجوء إلى التعليق والترجمة. وكم من موظف سام يشرح لوحة باللغة الفرنسية، وعندما تقترب الكاميرا ترى المواقع التي يتحدث عنها وهي مكتوبة باللغة العربية. وتكاد تكون لازمة حين كانت تتقدم وزيرة الطاقة والمعادن السابقة أمام الملك وتقوم بفروض الطاعة، وبعدها تقول « استسمحكم مولاي سأتحدث بالفرنسية «، و الشيء نفسه كان يقوم به مسؤول الماء والكهرباء و الرياضة سابقا. وفي رد مثير للسخرية، تداولته وسائل إعلام وطنية وأجنبية، رفض رشيد بلمختار، وزير التربية الوطنية والتكوين المهني السابق، الإدلاء بتصريح صحافي باللغة العربية لمراسلة قناة فرنسية، أثناء مشاركته في فعالية ثقافية ببارس، قائلا «je connais pas l’arabe، عفوا لا أعرف اللغة العربية «، الشيء الذي دفع صحيفة العربي الجديد، إلى اختيار الوزير السابق بلمختار، من بين خمس سياسيين عرب، أثبتوا جهلهم باللغة العربية وقواعدها، في تقرير لها نشرته على موقعها الإلكتروني. ولعل رفض الوزير الحديث بلغته الرسمية وتأكيده بعدم معرفته بها، هو سابقة خطيرة وصادمة، ومسا بهوية البلاد، وتهديدا للأمن اللغوي، وإهانة صريحة للنصوص القانونية والرسمية المؤكدة على رسمية اللغة العربية.
لقد أصبحت اللغة العربية ببلادنا غريبة في عقر دارها، هكذا أرادوا لها أن تكون، إنهم أهلها الذين رَضَوا عنها بديلا، ونَعَتُوها بالقصور والعَجْز. فلو مَنَحها أصحابها المكانة اللائقة بها وأكْرَمُوها لما حَلّت بها تلك المصيبة، حتى بات الناس يعتقدون أن اللغات الأجنبية هي لغات الانفتاح والتقدم، أما العربية فهي لغة التراث والقدم. كيف لا يَحْدُثُ ذلك، ولايزال بيننا من يدافع عن النّشَاز ويَنْتَصر للغة الأجنبي، ويَدّعي أن اللغة العربية ليست لغة علوم وتواصل. وقد لاقت نداءات مثل هؤلاء المصابين بداء الشك في اللغة العربية قَبُولا عند البعض، حيث رأى بعضهم أن نَتْرُكَ العربية جانبا، لأن إحياءها بعد موتها أمْر مُعْجز غير مأمون العواقب، فضلا عن كونه غير مُجْد في ما يتعلق بالتواصل، بل إن التعلق باللغة العربية، حسب زعم آخرين، كلام فارغ، وليس من الوطنية في شيء، إذ الوطنية قائمة، بحسبهم، في المعاني لا في الألفاظ .
ومن المؤسف أن المغاربة يركضون، منذ مرحلة الحضانة، على نحو مفجع صوب تعلم اللغات الأجنبية، بينما تتسارع معدلات هجرتهم للغة العربية، ذلك أن سياسة الفرنسة اخترقت كل المظاهر الوطنية، الإدارة، الحكومة، التعليم، وسائل الإعلام، والشركات، والمؤسسات الصناعية والتجارية، وإعلانات الشوارع، وبطاقات الزيارات والحفلات، لدرجة أصبحت معها هيمنة اللغة الفرنسية معطى ملموسا بالمغرب، إذ لا تزال أغلبية الإدارات المغربية تتعامل باللغة الفرنسية، في الكتابة والمراسلات والتعاقد وصرف الأجور والمعاشات، بل حتى الجريدة الرسمية تصدر بالفرنسية مع الطبعة العربية، و الخطب والتقارير التي تحدد الاختيارات الكبرى تحرر بالفرنسية ثم تترجم إلى العربية، وحتى المستشفيات لا نجد فيها أثرا للعربية، والشيء نفسه ينطبق على المؤسسات المصرفية. ومن ملامح تلك الغربة بالمغرب، تلك الكثرة الملحوظة من الأسماء الأجنبية على واجهات المحلات والمقاهي والشركات و المؤسسات، والملصقات واليافطات التي تعلق في الأماكن العامة بالفرنسية دون العربية، في خرق سافر لمقتضيات الدستور التي تنص على أن المملكة المغربية دولة ذات سيادة كاملة لغتها الرسمية اللغة العربية إلى جانب الأمازيغية.
إن إهانة العربية والحَطَّ من شأنها أصبح سلوكا عاما في المجتمع، كما غدا عند البعض من آيات الحداثة، لتتحول الفرنسية تلقائيا إلى لغة التخاطب الرسمية بنسبة 100 في المئة بين أبناء الطبقة البرجوازية خريجي مدارس البعثة الفرنسية، ونسبة 50 في المئة بين أبناء الطبقات الشعبية الذين درسوا بالمدارس الحكومية أو الحرة. ولعل إنشاء جمعيات لحماية اللغة العربية بالمغرب، لا يعني سوى أن لغتنا الرسمية بنص الدستور، موشكة، شأنها شأن الحيوانات النادرة على الانقراض، حيث أصبحت العربية على وشك الرحيل إلى مستودعات الذاكرة. كيف لا يحدث ذلك، ولاتزال بيننا إدارات تكاد لا تجد فيها وثيقة واحدة مكتوبة بالعربية، وإن وجدتها قد لا تستطيع قراءتها بسبب الركاكة والأخطاء.
كان من المفروض، بعد صُدُور ظهير 26 يناير 1965 والذي ُوحدت بمقتضاه المحاكم وباتت بفضله اللغة العربية وحدها لغة التداول والترافع والأحكام، أن يشمل التعريب باقي المناحي الأخرى. وبقدر ما أثلج الصدر قرار تعريب المعلومات التجارية والصحية والعلمية والتقنية المطبوعة على المواد الغذائية المستوردة من الخارج، بقدر ما حرك فينا الحاجة إلى أن تصبح العربية لغة الحياة في مختلف المرافق. وليس من شك في أن مسؤوليتنا جميعا كبيرة في هذا الزمن الذي أضحت العربيّة فيه، حبيسة بعض الخطب الدينية والسياسية وفي نشرات الأخبار، بتقاعس أهلها وليس لعيب فيها، غريبة أو تكاد، وغَدَت في مَسيس الحاجة إلى من يدفع عنها الهجمات التي تتعرض لها، من الإكثار من استعمال اللغات الأجنبية في غير ضرورة ولا حاجة، ومن استعمال العاميّات المُبْتَذَلَة. هذا الوضع، يساهم في نشر ثقافة الفرنسة والدارجة، و الاعتداء على اللغة العربية الفصحى.
لقد حدث غير ما مرة أن غابت وسيلة التواصل بين الأقدمين والمتأخرين باندثار لغات الأولين. اختفت اللغة المصرية القديمة، ومعها أسرار الحضارة الفرعونية، فوقف المصريون المعاصرون، ينظرون طويلا لتراث أجدادهم مندهشين، إلى أن نجح علماء الآثار في فك طلاسم الهيروغليفية. و في أيامنا هذه، هناك عدة شواهد بالمغرب تنذر بنتيجة مشابهة، قد تحل بلغة الضاد، فتمسي مجرد مادة للبحث على أجندة علماء الآثار. ذلك أن قضية اللغة العربية، ترتبط ارتباطا وثيقا بالسيادة الوطنية، وإن الاستقلال منقوص حتى تستعيد العربية سيادتها في وطنها إلى جانب الأمازيغية. وحيث أن اللغات الرسمية (العربية والأمازيغية) فوق اللغات الأجنبية، ومن مقدسات الدولة المغربية، مثلها مثل الدين الإسلامي والنظام السياسي والراية الوطنية والحدود الجغرافية، فهي بذلك لا يجوز أن تقصى وتحتقر في عقر دارها.
(* ) كاتب وباحث
الكاتب : عبد الله النملي - بتاريخ : 18/10/2017