الاتحاد الاشتراكي في مفترق الطرق: من ذاكرة النضال إلى مشروع الدولة العادلة

محمد السوعلي (*)

كيف لحزب قِيل مرارًا إنه انتهى، أن يواصل البقاء؟
وكيف نفسّر استمرار حضور الاتحاد الاشتراكي في المشهد السياسي، رغم التآكل الزمني، والاضطرابات المتلاحقة، وحملات التشويه المستمرة؟
بل كيف ينجح هذا الحزب، الذي وُلد من رحم النضال، في الحفاظ على موقعه كفاعل سياسي، حامل لذاكرة نضالية حية، ومشروع مجتمعي متجدد؟
وما سرّ هذه الاستمرارية السياسية والفكرية، في زمن العزوف الانتخابي، وتراجع الثقة، وتفاقم الهشاشة الاجتماعية، وهيمنة منطق التدبير التقنوقراطي البارد؟
ثم، ما أفق حزب تقدمي، اجتماعي ووطني، داخل معارضة مخنوقة بمؤسسات مغلقة، وأغلبيات سياسية ترفض الاختلاف وتقصي الرأي الآخر؟
وأخيرًا، كيف يمكن لصوت العقل، والتوازن، والعدالة الاجتماعية، أن يصل إلى المواطنين في زمن الصخب، والتضليل، والرداءة السياسية؟

ذاكرة نضالية حية ومشروع يتجدد

لقد تم الإعلان عن نهاية الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أكثر من مرة، إما بخفة أو من خلال حسابات سياسية ضيقة. غير أن من يروّجون لذلك يتناسون أن الأفكار لا تموت، وأن حزبًا تأسس على قيم العدالة والمساواة والتضامن لا يمكن أن يُطوى.
الاتحاد الاشتراكي لم ينسحب من ساحة النضال. لقد وُلد من رحم الكفاح الشعبي، وصمد في وجه القمع، وواصل تقديم البدائل الواقعية لمواجهة السياسات الليبرالية الجافة.
إنه لا يقتات على الماضي، بل يعمل على تجديد إرثه وتحويله إلى مشاريع حية. وفي زمن التهميش وانعدام الثقة واتساع الفوارق المجالية، يظل الاتحاد صامدًا لأنه اختار دائمًا صف الوطن، والديمقراطية، ودولة الحق، وكرامة المواطن.
لقد شارك الحزب في محطات مفصلية، من «الكتلة الديمقراطية» إلى المساهمة في هيئة الإنصاف والمصالحة، إلى النضال من أجل مدونة الأسرة، مما يؤكد أن الاتحاد ليس حزبًا عابرًا، بل فاعل تاريخي حيّ.
نرفض اقتصاد الريع… وننحاز للاقتصاد الاجتماعي والتضامني
منذ مؤتمره الوطني الحادي عشر، عمل الاتحاد الاشتراكي على تحيين مواقفه وربطها بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية، انسجامًا مع التوجيهات الملكية الداعية إلى جعل الاقتصاد في خدمة المواطن.
في ملف الماء، دعا الحزب إلى عدالة مائية، وحكامة فعالة، وتدبير مستدام للموارد، خاصة وأن أكثر من 35% من سكان القرى يعانون من ضعف في التزود بالماء الصالح للشرب.
في الطاقة، طالب الحزب بتحول جذري نحو الطاقات المتجددة، مع ضمان حق المواطنين في الاستفادة من أسعار عادلة ومعقولة.
أما في الرقمنة، فالاتحاد يصر على السيادة الرقمية الوطنية، وحماية المعطيات الشخصية، ومحاربة التفاوت التكنولوجي بين الجهات.
في المقابل، لم يتردد الحزب في انتقاد اختلالات «مخطط المغرب الأخضر»، الذي همّش الفلاحين الصغار، داعيًا إلى إصلاح يضع في قلبه الأمن الغذائي والعدالة البيئية والاجتماعية.
وفي ملف التشغيل، يقترح الاتحاد عقدًا اجتماعيًا جديدًا، يعتمد على دعم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وربط التكوين المهني بحاجيات كل جهة، وخلق فرص عمل دائمة ومؤهلة، لا سيما في القطاع العام.
وتؤكد معطيات المندوبية السامية للتخطيط أن معدل البطالة بلغ 13.2% وارتفع إلى 33% بين الشباب، في ظل هشاشة التشغيل وضعف آفاق الإدماج المهني.

من داخل المؤسسات… نعارض لنُصحّح المسار

في مواجهة حكومة تتسم بالسلطوية في الأسلوب، وبالتناقض في المحتوى، حرص الاتحاد الاشتراكي على أداء دوره كقوة اقتراح ومساءلة.
لقد ندد الحزب بإغلاق قنوات الحوار، وتجاهل الهيئات الوسيطة، ورفض الإصغاء إلى المقترحات البناءة التي تهدف إلى التخفيف من آثار السياسات المتبعة.
وقد كان من أقوى تجليات هذه المعارضة تفعيل ملتمس الرقابة من قبل الفريق النيابي للحزب، في سابقة سياسية تؤكد على جدية الموقف الاتحادي.
وإن لم يُكتب لهذا الملتمس النجاح، فذلك يعود إلى الحسابات الحزبية الضيقة وليس إلى ضعف المضمون.
الاتحاد الاشتراكي لا يغيّر خطابه وفق الظروف، بل يلتزم بخط إصلاحي واضح:
إصلاح النظام الانتخابي لتعزيز التمثيلية والشفافية؛
عدالة ضريبية تراعي الإنصاف؛
لامركزية فعلية تسمح بتوزيع عادل للثروات والفرص؛
حقوق اجتماعية موسعة ومضمونة.
نرفض دولة الإعانات الظرفية… ونناضل من أجل دولة الإنصاف
منذ نشأته، جعل الاتحاد الاشتراكي من العدالة الاجتماعية حجر الزاوية في مشروعه المجتمعي.
إنه يدافع عن دولة اجتماعية حقيقية، لا تُختزل في الإعانات الظرفية أو البرامج التقنية، بل تقوم على الاستثمار في الإنسان، وتكافؤ الفرص، والإنصاف المجالي.
وتتمثل ملامح هذا النموذج في:
تعميم فعلي وشامل للتغطية الصحية الإجبارية، خصوصًا في المناطق النائية والمهمشة؛
تنظيم القطاع الصحي الخاص للحد من الفوضى وتفشي منطق الربح غير المشروع؛
دعم مباشر ومستدام للشباب والطبقة المتوسطة في اقتناء السكن، في ظل تفاقم أزمة العقار واحتكار الأراضي؛
إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية، وتحفيز نساء ورجال التعليم، وتطوير المناهج التربوية؛
تعزيز استقلالية الجامعة وربط التكوين العالي بمخططات التنمية الجهوية.
ولإنجاح هذا التصور، يدعو الحزب إلى تفعيل حقيقي للجهوية المتقدمة، مقرونة بسياسات اللاتمركز الإداري والمالي، بما يتيح توجيه الاستثمار العمومي والخاص بشكل عادل بين الجهات.
ويؤكد على ضرورة تقليص التفاوتات الاجتماعية والمجالية، من خلال اعتماد سياسات التمييز الإيجابي لصالح المناطق المحرومة من التجهيزات والخدمات الأساسية، بما يضمن إنصافًا فعليًا للقرى، والجبال، والهوامش الحضرية.
وقد شدّد الاتحاد على أهمية استلهام تجارب دولية ناجحة، كتجربة إسبانيا في دمج التعليم العالي في السياسات الترابية، وتجربة البرتغال في تعميم التغطية الصحية وتحسين الخدمات، دون المساس بالتوازنات الاقتصادية الكبرى.

في أفق استحقاقات 2026 و2027: موعد مع التغيير

تشكل الانتخابات المقبلة فرصة تاريخية لإعادة بناء الثقة وتجديد العرض السياسي الوطني. الاتحاد الاشتراكي لا يبحث عن ثأر انتخابي، ولا يبيع أوهامًا، بل يطرح نفسه كبديل مسؤول وجاد، قادر على الإنصات، وعلى تجميع القوى الديمقراطية حول مشروع تقدمي جامع.
نحن لا نقبل باستمرار العبث والتردد والتقنوقراطية الباردة. بلدنا يستحق رؤية واضحة، وخطابًا صادقًا، وسياسات تنبني على العدالة المجالية، والكرامة، والتماسك الاجتماعي.
إن اللحظة السياسية لا تحتمل الصمت، ولا تقبل أنصاف المواقف.
والاتحاد الاشتراكي، بكل مكوناته، حاضر ليقود التحول، ويؤسس لمرحلة جديدة، يكون فيها المواطن في صلب السياسات، والديمقراطية في صلب الحكم، والعدالة في صلب التنمية.

(*)الكاتب الإقليمي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بتطوان

الكاتب : محمد السوعلي (*) - بتاريخ : 12/08/2025