الباحث جيل كيبيل :«أصبحت دبلوماسيتنا الدولية اليوم منحرفة عن المسار الصحيح!»

في حوار أجراه “توماس مالير» ل»Express” –يعود الباحث والأستاذ الجامعي والكاتب “جيل كيبيل»4 عقود في التاريخ ليناقش حال العالم العربي والإسلامي، دون أن يتناسى أيضا ما يصفه بـ»الضواحي الإسلامية» في فرنسا. في وقت لاحق، اصطدمت تحذيراته الأولية حول صعود وتطور الحركات الجهادية مع جزء من اليسار الفرنسي. في حواره مع “توماس مالير»، يأسف «جيل كيبيل» لتدهور العلاقات الدبلوماسية لفرنسا مع المغرب الكبير، والتغيير الشديد الذي أحدثته «اتفاقيات أبراهام»على المغرب، وعودة الغموض السياسي في المنطقة.

– يبدو أن العلاقات الدبلوماسية الفرنسية مع البلدان المغاربية، وكذلك مع البلدان الإفريقية الناطقة بالفرنسية تمر بأزمة عميقة…

– لم تكن الاضطرابات الهائلة في العلاقات الدولية، والتي أثرت بشكل عميق على ما تبقى من القوات الفرنسية في شمال إفريقيا وبلدانها الناطقة بالفرنسية، بالحدث المتوقع، ما أدى إلى أن تعيش سياستنا الخارجية أزمة، والدليل هو العلاقات مع المغرب والجزائر المستمرة في التدهور.
في ما سبق، كانت هناك 3 انقلابات متتالية في «مالي» و»بوركينا فاسو» و»النيجر»، بتشجيع من أصحاب النفوذ من موسكو (أستبعد الانقلابيين في الغابون، من داخل عائلة بونجو) إذ يبدو أنه ينبغي إجراء عملية تنظيف في ما أصفه بـ»الزنزانة الدبلوماسية» في الإليزيه.
وعلى نطاق أوسع، أصبحت دبلوماسيتنا الدولية اليوم منحرفة عن المسار الصحيح، علاوة على أن وضعها يشهد تحولا حيث تعاني فرنسا اليوم من أجل التكيف مع التغيرات الدولية، التي تميزت بصعود قوة جديدة وهي”بريكس». كان تاريخ 11شتنبر 2001، بمثابة فشل قصير الأمد لتنظيم القاعدة، لكن هذه الصدمة أظهرت أن «القوة المفرطة» للغرب في ظل نظام القيم المهيمن، تم تقويضها بشكل جيد. واليوم، دخلنا نظاما متعدد الأقطاب يتطلب علاقات أكثر تعقيدا بين الدول والمجتمعات.
إن علاقاتنا مع بلدان المغرب الكبير والإفريقية الناطقة بالفرنسية، باتت تتخذ شكلا جديدا تماما، مع العلم أن عددا كبيرا من المواطنين من هذه البلدان موجودون على الأراضي الفرنسية، وأن العديد منهم أصبحوا مواطنين لنا. في الحقبة الاستعمارية، كان هناك كيان فريد من نوعه يتميز بتسلسل هرمي قوي بين الشمال والجنوب، ثم بقدوم الاستقلال آمنا بالانفصال التام.
ولكن، بسبب الانفجار الديموغرافي والصعوبات التنموية، لم تتمكن العديد من بلدان الجنوب من توفير العمل لسكانها، ما أدى إلى هجرة جماعية إلى البلدان المستعمرة السابقة، وبالتالي إعادة خلق الفضاء المتغير الذي كان موجودا، ولكن في الاتجاه المعاكس، ما يجعلنا نتساءل : “كم من المهاجرين غير الشرعيين البالغ عددهم 8000 في «لامبيدوسا» والذين يتصدرون الأخبار سينتهي بهم الأمر في «مينتون» (مدينة ساحلية تعرف بـ»لؤلؤة فرنسا”)؟ وهل هذه مسؤولية السفراء أم الولاة؟ وهل لا يزال يتعين على الهيئتين العمل معا؟”.

o o زلزال المغرب كشف مدى الخلاف بين باريس والرباط.. ما هي الأسباب في نظرك؟

n n بعد انتخابه عام 2017، وحتى قبل خوض غمار السباق الانتخابي والرئاسي، خصص إيمانويل ماكرون رحلته الرئاسية الأولى إلى المغرب، حيث اعتقدنا أن مثل هذه البادرة من رئيس لائكي(علماني) ستؤدي إلى بداية قوية بين البلدين كما يبدو التناقض الآن أكثر وضوحا في ضوء الوضع الحالي.
نعم، هناك سوء فهم يتعلق بالعلاقة الشخصية بين رئيسي الدولتين، إلا أن أصل المشكلة بشكل رئيسي يأتي من الضغوط التي تمارسها وزارة الداخلية، بسبب رفض الدول المغاربية استعادة مواطنيها الجانحين المدانين في فرنسا والمطرودين منها. وبينما استغل «التجمع الوطني « هذا الموضوع، قمنا، لهذه الأسباب السياسية الداخلية وانتقاما، بتحديد عدد التأشيرات الممنوحة وحصره بشكل كبير.
وحتى قبل هذا القرار، كان مستوى الصراع بين فرنسا والجزائر كبيرا بالفعل. في العام الماضي، كان هناك أيضا خطأ في التحليل خلال الزيارة الرسمية للرئيس ماكرون إلى الجزائر، وكان الإليزيه يؤمن برحيل سياسي جديد، معتبرا أن الرئيس تبون سيكون الشريك المناسب لفرنسا.
لقد كان من الجيد لنا أن نفهم طبيعة الاستبداد الجزائري..بعدها، أرسلت «هيئة الأركان العامة»الجزائرية الرئيس تبون إلى «موسكو» بدلا من «باريس» حيث أعلن في خضم الحرب الأوكرانية أن بوتين «فاعل خير يخدم الإنسانية». علاوة على هذا، في الجزائر، لم يعد المجتمع المدني قادرا على التعبير عن نفسه، كما أظهر القمع المتواصل للحراك ذلك.
من ناحية أخرى، في المغرب الوضع مختلف، حيث يشهد البلد تنمية اقتصادية متكاملة، مع وجود قوي للشركات الفرنسية. إن هؤلاء الشركاء – وهم المغاربة الأكثر ميلا إلى الفرانكوفونية – الذين أخذوا رهائن لـ»سياسة التأشيرة» في حين أن معظمهم تلقوا تكويناتهم العلمية والدراسية في جامعات فرنسا، قد شعروا بالإهانة والإحباط. في ذلك الوقت، كان هناك تقدير دبلوماسي سيء، أما في الآونة الأخيرة كانت لتكون الأمور أفضل، ولتكون الصحافة المحلية أقل شراسة تجاه بلدنا، إلا أن ما تبع الزلزال الذي ضرب مراكش (الحوز) أشعل بيننا العداء مرة أخرى.
من جهته، يدير المغرب مساعداته الإنسانية بطريقة سيادية، وهذا من حقه.. في هذا السياق، تم فهم رسالة الرئيس الفرنسي الموجهة مباشرة إلى المغاربة بشكل خاطئ، تحديدا على أنها «اعتداء على سيادة دولة مستقلة» ، وهو ما يعتبر خطأ تواصليا جديدا، يشهد على صعوبة آلة دولتنا في فهم ماهية العلاقات الدولية الجديدة اليوم.

– إذن، هل ارتكبت فرنسا خطأً حين “لعبت” دور الجزائر، ذلك النظام الذي يركب الأمواج على نظرية مناهضة الاستعمار، بدلا من مواكبة المغرب؟

– في المغرب، يشعر العديد ممن يبادلونني الحوار بالاستياء، ومن أنه كلما تزايدت هجمات الجزائر على فرنسا على المستوى التذكاري، كلما طلبت فرنسا المزيد من خلال مضاعفة إشارات الندم التاريخي. في حين أن المغرب – حسب رأيهم – الأكثر سلمية في علاقته بتاريخ فرنسا، تم التعامل معه دون أي اعتبار..لا شك أن هذه التصريحات تنطوي على عنصر سياسي، ولكنها تشير إلى الحالة الذهنية السائدة بين أهل النخبة في البلاد.
علاوة على ذلك، كانت «اتفاقيات أبراهام» في عام 2020 بمثابة «تغيير في قواعد اللعبة بالنسبة للمغرب»، فمقابل افتتاح سفارة إسرائيلية بالرباط اعترفت الولايات المتحدة بـ”الطبيعة المغربية” للصحراء، ممكنة الرباط من تعزيز تفوقها بشكل فعال في هذه القضية، حتى لو ظل التضامن مع الفلسطينيين قوياً بين الشعبين – خلال مسيرة المغرب الجميلة في كأس العالم في قطر كان أنصاره يلفون أنفسهم بالعلم الفلسطيني – وسياسة نتنياهو الحالية لا تساعد في شيء.
بعدها، اعترفت «ألمانيا» و»إسبانيا» أيضا بهذه “الهوية المغربية”، على الرغم من أن إسبانيا كان لديها «نزاع خطير» مع المغرب بسبب تدفقات الهجرة عبر مضيق جبل طارق والاتجار بالبشر هناك، وما يتعلق بـ»سبتة» و»مليلية» الموروثة من الحقبة الاستعمارية، تود الحكومة المغربية، أن تتحرك فرنسا في نفس الاتجاه، غير أننا تقليديون في الحفاظ على سياسة التوازن بين الجزائر والمغرب، غير أن الزوبعة في سياستنا الخارجية اليوم تجبرنا على إعادة كل شيء إلى طبيعته معا.

– كيف نفسر تطور أساسي آخر، يكمن في تراجع الإسلام السياسي في شمال إفريقيا كما هو الحال في الشرق الأوسط بأكمله؟

– في فرنسا، يبدو أن كلا من السلفية والإخوان المسلمين، قد أصبحا الآن في قلب «الاستراتيجية الانتخابية» لليسار الراديكالي. من عجيب المفارقات، أن العكس تماما هو ما يحدث في العالم الإسلامي، لكون بلدان جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط ​​تنأى بنفسها عن الاستخدام السياسي للدين.
إبان الربيع العربي (قبل 10 سنوات)، قامت «قطر» بتمويل جماعة «الإخوان المسلمين» في جميع أنحاء العالم، كما كانت قناة «الجزيرة» ذات محتوى إخواني بالكامل تهدف به إلى منافسة القنوات العربية، إلا أن السياق اليوم قد تغير تماما، حيث فشل التحالف بين «تركيا» و»قطر» و»إيران» – الذي سمي بـ»المحور الأخوي الشيعي» – ضد «السعودية» و «مصر» وتحديدا مع وصول محمد بن سلمان إلى السلطة في عام 2017، الذي قام بتهميش السلفية وبدأ حملة”تحرير القيم» في المملكة.
هذه المرة، تمكنت من رؤية مشهد غير اعتيادي في السعودية، من نساء سعوديات يرتدين السراويل القصيرة في إقليم ألب “كوت دازور» (Provence-Alpes-Côte d’Azur)، بينما تتجول نساء فرنسيات مرتديات “عباءة” ويرتدين قناعا صحيا أشبه بـ»النقاب». هذا تباين مذهل تبدو فيه أوروبا وكأنها أصبحت الآن معقلا للإخوان المسلمين.
حتى في تركيا، أقدم أردوغان ومن أجل تعزيز سلطته في مواجهة المشاكل الاقتصادية وانهيار العملة التركية، ولحاجته الشديدة الآن إلى دولارات الخليج، على إغلاق جميع القنوات التلفزيونية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين على أراضيه التي كانت تبث منذ تأسيسها إلى الآن. بالنسبة لقطر، فقد مارست سياسة التقارب مع الرياض، ولم تعد بحاجة إلى الإخوان لمنافسة السعودية، ما يجعلنا ندرك أننا- حتى الآن – لم نعد في الدورة التاريخية التي أوصلت الإسلام السياسي إلى القمة لمدة عقد من الزمن.

– وهل الإسلاميون في حزب العدالة والتنمية في المغرب، باتوا في خضم كارثة…

– لقد تم سحق حزب «العدالة والتنمية» انتخابيا في عام 2021، وقد أرهقتهم ممارسة السلطة تماما، مما سلط الضوء على التناقضات بين تطلعات جزء من قاعدتهم والسياسة التي عكفوا على اتباعها. بات هذا الحزب الإسلامي، اليوم، يعاني من ضعف شديد، بما في ذلك قدرته على انتقاد السلام مع إسرائيل، كما أن المواضيع الأهم اليوم بالنسبة للتماسك الوطني، تتمثل في قضية الصحراء والعلاقة المعقدة مع فرنسا وغيرها من الانشغالات المهمة..