البيروقراطية والثورة المعلوماتية

بشرى أعراب

نعيش اليوم طفرة معلوماتية غيرت بشكل كبير أنماط الحياة البشرية سياسيا وعسكريا واقتصاديا واجتماعيا، ليظهر عصر جديد من البشرية يصبح الإنسان فيه هو العبد بينما الآلة هي السيد ، وهو ما يتطلب وجود رؤية شاملة لما ستكون عليه حياة الأفراد في السنوات القادمة، وعلى هذا الأساس ورغم كل هذه التغيرات هل يمكن اعتبار الثورة الذكية قد تجاوزت كل المفاهيم والطرق التقليدية التي عرفتها البشرية منذ بدء الخليقة،على سبيل المثال بيروقراطية فيبر التي ظلت لسنوات عديدة حجر الأساس في شتى التنظيمات الاجتماعية .
البيروقراطيـة»، هذا المصطلح الذي يعتبـره الإداريون حجر الأساس الذي أنشأ التنظيـم العصـري لمفهوم «المنظمات» بدءا من القرن الثامن عشر، والذي كان سببا في دخول البشرية إلى عصر جديد في الإنتاج والتصنيع مع التوسّع في استخدام المكننة الصناعية.
وهو أيضا نفس المصطلح الذي يترادف دائما مع مفاهيم الإدارة الحديثة بأنه العائق الأول لحركة الإبداع والتطور، خصوصا في العصر الحالي، حيث السرعة والتجربة وتداول الأفكار وتنفيذها هي العناصر التي يقوم عليها النجاح لكل من الدول والمنظمات. البيروقراطيـة موجودة ومتجذرة، ولا مجال لإنكارها إلا أن تعلق بعض الظواهر المرضية بالبيروقراطية قد يقود إلى إعاقة وتحجر المفهوم البيروقراطي، ومعنى هذا أنه يمكن للبيروقراطية أن تكون سيئة أو سليمة مرنة، وهذا ما يجب التنبيه إليه لتأمين سلامة التنظيمات من المعوقات التي تفرزها البيروقراطيـة السيئة.
لطالما ارتبط مصطلح «البيروقراطية» في الأذهان بالبطء وتعقيد الإجراءات التي كان من الممكن أن تنتهي بشكل أسرع وأسهل، وتعتبـر اليوم هي أصبع الاتهام الأول في تعثّــر أي شركة كبيـرة متهالكـة، والسبب وراء كل دولة فاشلة، والمفتـاح لكل منظّمـة لا تمارس دورها بشكل سليم، والعائق الأوّل في تسويق أي خدمة أو منتج للسوق المتعطّـش للسرعة والإبداع والتجديد.
بل وأصبحت -إلى حد بعيد- مقتـرنة دائما بمعايير الفسـاد في الدول والشركات، حيث تفتح البيروقراطية -بتعقيد إجراءاتها وتشابكها- الباب واسعـا أمام وسائل الفساد للانتفاع منها واستغلال تعقيداتها في تحقيق مكاسب جزئية للقائمين عليها
في رحـاب البيروقراطية:

المصطلح نفسه جاء نصفه الأول من جذر لغوي فرنسي معروف (Bureau) وتعني المكتب، ونصفه الآخر مشتق من كلمة (Kratos) وتعني السلطة، فالبيروقراطيـة هي «سلطة المكتب» المترادفـة بالإجراءات والقوانين الفوقية الواجبـة التنفيذ، حيث يغيب مفهوم الانتخاب أمام مفهوم التعيين، وتغيب مشاركة الشعب -أو الموظفين في حالة الشركات- في اتخاذ القرارات أو وضـع الإجراءات.
رغم أن إرهاصات البيروقراطية بدأت بعالم الاقتصاد الفرنسي فنسينت دو غورني في القـرن الثامن عشر تزامنا مع الصعود الصناعي الأوروبي فإن المصطلح عُرّف بوضوح أكبر في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على يد عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الذي توسّع في شرح مظـاهره استنادا إلى إدراك واسع للتاريخ ودور البيروقراطية في التأثير على الحقب الاجتماعية المختلفة والتحامها بأنظمة الحكم السياسي.
لذلك يمكن القول إن البيروقراطيّة في الإدارة مرّت بطور «الإصـلاح» التدريجي أكثر بكثير من طور «الثورة الانقلابية»، وما زالت البيروقراطية ضاربة بجذورها في أكثر المنظمـات نجاحا وعراقة ولكن بأشكال مختلفة تماما عما كانت سائدة في الماضي، حيث تم استبدالها بأشكال جديدة مواكبـة للعصـر ومتطلبـاته من خلال سلسلة متصلة تبدأ من البيروقراطية المتصلّبة في أحد طـرفيها، وتنتهي إلى نمـوذج أقرب إلى الشبكة المـرنة في طرفها الآخر.
أحدث الدارسات والقرارت والإحصاءات الأوروبية اليوم تحذر من مخاطر البيروقراطية، يقف العالم اليوم على أعتاب ثورة نوعية جديدة يقودها الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وسلاسل الكتلة، والطابعات ثلاثية الأبعاد، والعملات الافتراضية، وغيرها من التقنيات الذكية، من شأنها أن تغير ليس فقط هياكل الإنتاج وخصائص المجتمعات وموازين القوة، بل أيضًا المنظور المعرفي للبشر تجاه الأشياء بصورة عامة، فالبشرية أصبحت على وشك التحول نحو جيل جديد من المجتمعات، وتنذر بظهور مجتمع فائق الذكاء تكون فيه اليد العليا للآلة على الإنسان، وتتحقق نبوءات أفلام الخيال العلمي بتآكل المجتمع من داخله عبر إزالة الخطوط الفاصلة بين ما هو إنساني وما هو مادي، ويتعدى ما تم تسميته بمجتمع المعلومات ليظهر «مجتمع ما بعد المعلومات. هذا ليس هو التحول الأول الذي تُحدثه التطورات التكنولوجية عبر التاريخ، ولكنه قد يكون التحول الأقوى، حيث غيرت من طرق التواصل بين الأفراد، ويتضح ذلك في تأثير الاختراعات التكنولوجية على طرق التواصل بينهم، بداية من اختراع آلة الطباعة الخشبية على يد الصينين (3 )، ثم اختراع التليجراف على يد صمويل مورس، مرورًا باختراع الهاتف على يد جراهام بل، ثم اختراع شبكة الويب على يد تيم بيرنرزلي (4 )، ثم التطور الأبرز المتمثل في الشبكات الاجتماعية وتطبيقات الهواتف الذكية وإنترنت الأشياء التي سهلت عملية التواصل بصورة كبيرة بين الأفراد.
وقد كان لظهور الفضاء الإلكتروني والشبكة العنكبوتية أثر هام في الحياة البشرية، فسهولة استخدامها ورخص تكلفتها ساعد على قيامها بأدوار مختلفة في الحياة البشرية، سواء تجارية أو اقتصادية أو معلوماتية أو سياسية أو عسكرية أو أيديولوجية أو غيرها من المهام التي يمكن أن تقوم بها، فالذي يدير العالم حاليا آحاد وأصفار غاية في الصغر، وقد أصبح جليا أن من يمتلك آليات توظيف هذه البيئة الإلكترونية الجديدة هو الأكثر قدرة على التأثير في سلوك الفاعلين المستخدمين لهذه البيئة.
كما عمل الفضاء الإلكتروني على زيادة التفاعلات بين الأفراد عبر الدول، وسهولة تبادل المعلومات والبيانات، كما عزز الفضاء الإلكتروني من التغيير الهيكلي لعملية صنع القرار داخل الدولة، من الاعتماد على المؤسسات الرسمية إلى تفاعل جهات وجماعات وأفراد رسمية وغير رسمية داخل الدولة عبر الشبكات الاجتماعية، والانتقال من مرحلة تبني النموذج القائم على مركزية دور الدولة في صنع السياسات إلى مشاركة الأفراد في صياغة هذه السياسات، ومن الاعتماد على المؤسسات البيروقراطية في تقديم الخدمات إلى الاعتماد على شبكات الويب.
وأثرت التكنولوجيا أيضًا على الهويات والثقافات، وذلك بفعل تأثير العولمة التي أفرزتها هذه التطورات التكنولوجية، والتي جعلت العالم كله يبدو صغيرًا، فسهولة الاتصالات بل ورخص تكلفتها سهلت عملية التواصل بين الحضارات والثقافات المختلفة، وأصبحت الثقافة الغربية المنتجة للتكنولوجيا هي الثقافة المهيمنة، حيث ساهمت التطورات التكنولوجية في تقديم الثقافة الغربية كثقافة عالمية للجميع، الأمر الذي يجعل الخصوصية الثقافية لبعض المجتمعات موضع التهديد والنسيان.
كما غيرت التكنولوجيا أيضًا من شكل الحروب والصراعات البشرية على مدار العصور، فمن الحروب التقليدية التي استخدمت السيوف والرماح ثم البنادق والرشاشات، ثم القنابل النووية والصواريخ العابرة للقارات، إلى نوع جديد من الحروب هو الحروب الإلكترونية التي تستخدم نوعًا آخر من الأسلحة متمثلًا في فيروسات الكمبيوتر التي لديها القدرة على إلحاق دمار يوازي دمار الأسلحة التقليدية بل قد يفوقه في بعض الأحيان.
ليس هذا فحسب، بل غيرت التكنولوجيا من أشكال الحكومات ووظائفها في بعض الأحيان، فمثلًا عرفت أدبيات العلوم السياسية الحكومة التقليدية التي تقدم خدماتها للجمهور عبر جهاز بيروقراطي مكتبي، ثم تطورت إلى الحكومة الإلكترونية التي تعتمد على طرق الاتصال الحديثة مثل الإنترنت في تقديم خدماتها للجمهور بسهولة ويسر، ومع التطور التكنولوجي غير المسبوق بدأ عدد من الدول يتبنى نماذج الحكومات الذكية القائمة على تقديم جميع خدماتها الحكومية إلى المواطن عبر الهاتف الذكي المتصل بالإنترنت.
وقد ألقت هذه التطورات التكنولوجية على الحكومات أعباء عديدة، وذلك لأن التكنولوجيا سلاح ذو حدين، فكما يمكن استخدامها في ما يفيد البشرية، يمكن استخدامها أيضًا في ما يضرها. فإذا سبق المجتمع الحكومات في استخدام التكنولوجيا الحديثة، مدفوعًا في ذلك بمبادرات شركات تكنولوجيا المعلومات، فإن ذلك قد يشكل تحديًا للحكومة في كيفية إدارة العلاقات الجديدة الناشئة عن استخدام هذه التكنولوجيا، خاصة التهديدات الجديدة التي تطرحها مثل الجرائم الإلكترونية على سبيل المثال، أو استخدام الطائرات التجارية بدون طيار أو المخصصة للترفيه في العمليات الإرهابية، أو استخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد في صناعة الأسلحة.
ومن ثم فقد غيرت التكنولوجية بشكل كبير أنماط الحياة البشرية سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا ومجتمعيًّا، فغيرت من طرق التواصل بين الأفراد، وطورت أجيالًا مختلفة من الحروب، وشكلت قوة دافعة للاقتصاد، وأظهرت أنماطًا مختلفة من السلوكيات، وخلقت أنواعًا جديدة من الثقافات، وغيرت من أشكال الحكومات وهياكل المدن والمجتمعات، وضاعفت عدد التهديدات.

باحثة في علم الاجتماع

الكاتب : بشرى أعراب - بتاريخ : 08/07/2022

التعليقات مغلقة.