الترافع الدبلوماسي وانعكاساته على التنمية: نحو دبلوماسية فعالة تخدم القضايا الوطنية والدولية

محمد السوعلي (*)
مقدمة
في عالم تسوده تحولات متسارعة وتحديات تتجاوز الحدود التقليدية للسيادة، لم تعد الدبلوماسية مجرد أداة لتمثيل الدول، بل أصبحت رافعة أساسية للتأثير وصناعة التوازنات وتوجيه التنمية. فالتشابك بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي في السياق الدولي المعاصر جعل من الترافع الخارجي امتدادًا طبيعيًا للنقاشات الداخلية، ومختبرًا لمصداقية الاختيارات الوطنية. وفي التجربة المغربية، تميزت الدبلوماسية بقيادة جلالة الملك محمد السادس برؤية استباقية أرست تموقعًا قويا للمغرب على الساحة الإفريقية والدولية، غير أن واقع التنمية الداخلية يطرح أسئلة حارقة حول التأثير الفعلي لهذا الترافع، ومدى قدرته على خدمة العدالة المجالية والتنمية الشاملة.
الدبلوماسية والتنمية: تقاطعات استراتيجية وضرورة تكاملية
لم يعد بالإمكان اليوم الفصل بين المسار الدبلوماسي وخيارات التنمية. فالدبلوماسية تجاوزت طابعها التمثيلي لتصبح أداة فاعلة لصياغة السياسات الدولية، بينما تحولت التنمية من مشروع اقتصادي صرف إلى مشروع حقوقي شامل قائم على التمكين والعدالة. ويبدو جليًا أن تقاطع هذين المسارين بات ضرورة، وليس مجرد خيار، من أجل تعبئة الموارد وتحسين صورة الدولة وتعزيز مكانتها في محيطها الإقليمي والدولي. غير أن تحقيق هذا التكامل يقتضي الانتقال من الخطاب الترويجي العام إلى مقاربة استراتيجية تجعل من الترافع الخارجي مرآة للواقع الداخلي، ومن قضايا التنمية الداخلية رهانًا ذا مصداقية في مختلف المحافل الدولية.
القيادة الملكية ودينامية الترافع الاستباقي
تشكل القيادة الملكية رافعة مركزية في إعادة صياغة الدبلوماسية المغربية، إذ مكنت التوجيهات الملكية المتكررة من إرساء دبلوماسية تعتمد على المبادرة، وتوسع دائرة الترافع لتشمل الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين والمجتمع المدني. فقد برز هذا التوجه بشكل لافت في القضايا ذات الأولوية، سواء من خلال الدفاع عن قضية الصحراء المغربية، أو عبر الانخراط في شراكات استراتيجية مع إفريقيا وأوروبا وآسيا، أو من خلال ملفات دولية كالهجرة وتنظيم كأس العالم 2030. ويُسجل أن هذه الدينامية الملكية أرست مرجعية قوامها الانفتاح والوضوح وربط السيادة بالتنمية، غير أن ترجمة هذه المرجعية إلى ممارسات مؤسساتية منسجمة لا يزال رهينًا بمدى تفاعل الفاعلين العموميين مع مضامينها، ومدى توفر الإرادة السياسية لصياغة رؤية موحدة تجمع بين الدبلوماسية الرسمية والموازية في خدمة مشروع تنموي منصف ومستدام.
الترافع الاقتصادي وعدالة التوزيع الترابي
أضحى تحسين مناخ الأعمال أحد المحاور الكبرى للترافع المغربي في الخارج. فالسفارات والمراكز الجهوية أصبحت تشارك بشكل مباشر في تسويق صورة المغرب كبلد مستقر، منفتح، وزاخر بالإمكانات ومعتمد لإصلاحات هيكلية من شأنها تشجيع الاستثمارات. غير أن هذه الصورة لا تكتمل إلا إذا تم تعزيزها بواقع اقتصادي متماسك داخل البلاد، يبرز العدالة المجالية ويُقلص الفوارق الترابية. فكيف يمكن إقناع المستثمرين بجدوى الاستثمار في الجهات النائية إذا كانت تعاني من ضعف البنية التحتية، وهشاشة في الخدمات، وغياب رؤية تنموية واضحة؟ إن الترافع الاقتصادي لن ينجح في تحقيق أهدافه إذا لم تُمنح الجهات الوسائل القانونية والتقنية لتسويق مؤهلاتها وملفاتها الاستثمارية، عبر برامج التعاون اللامركزي أو من خلال الحضور الفعّال في المعارض والمحافل الدولية. كما أن إشراك الفاعلين المحليين في رسم السياسات الترويجية أصبح شرطًا ضروريًا لتعزيز جاذبية الأقاليم، وترجمة خطاب الإنصاف إلى وقائع قابلة للقياس.
أعطاب هيكلية تُعيق نجاعة الترافع
رغم المكتسبات المسجلة، لا يزال الترافع المغربي يواجه عددا من الأعطاب البنيوية التي تحدّ من فاعليته. فغياب التنسيق بين الفاعلين، وتعدد الخطابات، وافتقار بعض المؤسسات إلى الكفاءات المتخصصة في مجالات مثل الاقتصاد الأخضر، والرقمنة، والدبلوماسية الإنسانية، كلها عناصر تُضعف القدرة الترافعية وتجعل الخطاب الخارجي فاقدًا للانسجام والمصداقية. كما أن التأخر في التكوين المستمر للموظفين والملحقين الاقتصاديين، وغياب مؤشرات لقياس الأثر، يعكس قصورًا مؤسساتيًا يحتاج إلى معالجة عاجلة. ومن جهة أخرى، فإن الإعلام الوطني لا يزال متأخرًا في أداء دور الترافع الرقمي الفعّال، خاصة في ظل الحملات المضلِّلة التي تستهدف القضايا الوطنية، وفي مقدمتها الوحدة الترابية. ويُسجل أيضًا ضعف إشراك الجماعات الترابية في مجالات الترافع، رغم أنها الفاعل الأساسي في التنمية المحلية، وصاحبة الشرعية الديمقراطية والانتخابية التي يمكن استثمارها على الصعيد الخارجي.
من الترافع المناسباتي إلى الدبلوماسية التنموية المتكاملة
تُظهر التجربة المغربية أن الترافع الخارجي لا يمكن أن يكون بديلاً عن التنمية، بل هو انعكاس لها. فكلما كانت التنمية شاملة، عادلة، وملموسة، ازدادت صدقية الخطاب الدبلوماسي، وتوسعت مجالات تأثيره. أما في غياب ذلك، فإن الترافع يتحول إلى ترف لفظي لا يجد ما يسنده على الأرض. الواقع أن مؤشرات التنمية الحالية لا تعزز مصداقية الترافع المغربي، بل تُربكه، حيث البطالة تتفاقم، والتضخم يرهق الأسر، والفساد والمحسوبية يُفرغان السياسات من مضامينها، ويُضعفان الجاذبية الاستثمارية والقدرة التنافسية. لذلك، فإن المطلوب هو توجيه الجهود نحو إصلاح داخلي حقيقي يُعيد الثقة في المؤسسات، ويُسند الخطاب الدبلوماسي بما يليق من الإنجاز. كما أن التوجيهات الملكية المتكررة في مجالات الاستثمار، والتعليم، والرعاية الاجتماعية، تشكل مرجعية متكاملة لصياغة خطاب تنموي قادر على مخاطبة الداخل والخارج بلغة واحدة، هي لغة النتائج والوضوح.
خاتمة
إن الدبلوماسية اليوم لم تعد شأناً نخبويًا أو مقتصرة على وزارة الخارجية، بل باتت ورشًا وطنيًا مفتوحًا أمام مختلف الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين والمجتمعيين. غير أن هذا الورش يظل مشروطًا بمدى ارتباطه بقضايا الناس، ومصداقيته في التعبير عن واقعهم وآمالهم. الترافع التنموي ليس مجرد أداة دفاعية، بل هو تعبير عن نموذج مجتمعي يؤمن بالعدالة المجالية والسيادة الاجتماعية والتمكين الديمقراطي. وما يُضعف هذا الترافع هو موسميته، بطء تفاعله، وتعدد المتدخلين دون تنسيق أو في غياب استراتيجية موحدة. المطلوب اليوم هو إحداث ثورة هادئة تُحوّل الدبلوماسية من منطق التبرير إلى منطق التأثير، ومن الدفاع إلى المبادرة، ومن الواجهة إلى الجوهر. وحده الترافع الذكي، المرتبط بالواقع، القائم على الإنجاز لا البلاغ، هو القادر على منح المغرب موقعًا لائقًا في عالم تتعدد فيه الجبهات، وتشتد فيه المنافسة على النفوذ الناعم. إن التنمية والكرامة لم تعودا مجرد أهداف، بل أصبحتا شروطًا أساسية لأي خطاب خارجي طموح وناجع.
(*) عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات
الكاتب : محمد السوعلي (*) - بتاريخ : 02/07/2025